تواصل معنا عبر الفيسبوك | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كلمات في الرحيل الكاوي لجورج جوني نصرات حاجّ
عبلين ترتدي الأسود وتبكيك بُكاءً مُرًّا
د.سمير فوزي حاجّ
بالوَردِ والفُلّ والياسمين كَفّناكَ ،
بالأسْوَدِ ودّعْناكَ ،
بالزفّةِ والأهازيج غَنَّيْناكَ ،
بالشّموعِ والدّموعِ سَقَيْنا خُطاك
عبلين ثَكْلى مُتّشِحَةٌ بالأسْوَدِ ، حِدادًا وحُزنًا على رحيلٍ مُوجِعٍ ، يَشْطُرُ القلوبَ والنفوسَ وَيَقْصُمُ الظَهْرَ. نشيجُ الأمِّ الثّكْلى وهي تسير خلف النّعش مناديةً بوَلْعَةٍ وَحَسْرَةٍ كاويةٍ ابنَها الرّاحل ، وَبُكاءُ الأبِ الثاكلِ يُقَطِّعُ الأوصالَ ، وعويلُ الأخواتِ الفاقداتِ سُؤدُدَ العَيْنِ ، يُمَزّقُ نِياطَ القلْبِ وَيَشُقُّ عَنانَ السّماءِ . زهرةٌ نديَّةٌ شذيّةٌ ، لمّا تتفتحْ أكْمامُها بعدُ ، اقتُطِعَتْ عُجالةً من بُسْتانٍ فوّاحٍ .غصنٌ رطيبٌ غَضٌّ ، اجْتُثَّ فُجاءَةً من شجرة عبلين الخضراء الشامخة . وعبلينُ تبكي فقيدَها الأملود .
كَمْ قاسٍ وموجِعٍ هذا الرحيل !
يُزرَعُ الزّهرُ وَيُقْطَفُ لِيُزَيِّنَ حديقةَ البيتِ وساحاتِ الفرحِ وأردانَ العروسَيْنِ ، لكنّهُ قُطِفَ يا جورجُ ، لِيُجدّلَ أكاليلَ عُرسِكَ الجنائزيِّ وَوداعكَ الذّابح . ما أقْسى الدهْرَ ! هلْ نُرَدّدُ في هذا الحدثِ الجلَل ، ما خطّهُ يراعُ مُعلّمِنا وشاعرِنا العبلينيّ جورج نجيب خليل ، في موقف مُماثلٍ :
يا دهرُ وَيْكَ كفاكَ غدرا أقبلتَ بالأرزاءِ تَتْرى
وَفَجَعْتَنا يا دهرُ بمُصيبةٍ وقطفْتَ وِفْقَ هواكَ بدرا
وَهَلْ نَكُفُّ عن سماعِ سيمفونية ِ مارسيل خليفة ، وهو يُغَنّي مزمورَ محمود درويش الحارق :
" وَأَعْشَقُ عُمْري : لأنّي إذا مُتُّ أخْجَلُ مِنْ دَمْعِ أمّي " !
كُلُّ كُنوزِ الأرضِ لا تُساوي دَمْعَةَ اُمّ ، فكم بالحريّ حين تَذْرِفُ الأمُّ دُموعَها في رحيلِ قُرّةِ عيْنَيْها أمْلودِها الغالي !
رَاْفَةً يا شبابَنا بأمّهاتكم وآبائكم وأخواتكم وإخوتكم ! على رِسْلِكُمْ يا شبابُ ! لا تَدَعُوا البومَ والغِرْبانَ تأتي إليكم . ارحموا الأمهاتِ والآباءَ ..رُحْماكُمْ ...لا تشتروا ألعابَ الموت، ولا تَدَعُوا عُيونَ آبائِكُمْ وأمهاتِكُمْ تَذْبُلُ ودموعَهم تنهمرُّ مِدْرارًا ، ولا تُشْعِلوا نيران الحُرقةِ في قلوب أحبّائكم ...
الحياةُ مُقدّسَةٌ فاحفظوا وحافظوا على ناموسِها ودُستورِها . لا مُزاحَ معَ الحياةِ الماكرةِ . وصفَها أميرُ الشّعراء أحمد شوقي بالأفعى الرّقطاء اللاسعة ، التي تتظاهرُ بالنوم وتبُثُّ سُمَّها الزُّعاف :
أخا الدُنيا أرى دُنياكَ أفْعى تُبَدّلُ كُلَّ آوِنَةٍ إهابا
وأنَّ الرُّقْطَ أيْقَظُ هاجِعاتٍ وأتْرَعُ في ظِلالِ السِلْمِ نابا
" الحياةُ حُلوةٌ يا صاحبي " ! كما كتبَ شاعرُ تركيا ناظم حكمت . كُلُّنا نُحِبُّ الحياةَ وأتَيْناها
لنعيشَ وَلِنُفْرٍحَ أهْلَنا وأحْبابَنا ، وعَلَيْنا الحذرُ والتوجّسُ قَدْرَ المستطاع ، لأنَّ صَوْلجانَ المَوْتِ
لا يرحَمُ ، ولا يعرفُ الرأفَةَ .
القلوب وجيعةٌ مَشْروخَةٌ ، والمآقي ملآى بالدموع السخينة .هذهِ الألوفُ منَ المُشيّعين المُتَسَربلين
بالأسودِ حِدادًا لرحيلكَ الموجع يا جورجُ ، هي بطاقاتُ حُبٍّ ورسائلُ شَوْقٍ وَمَحَبّةٍ لروحِكَ
المُرَفْرِفَة في سمائهم ، وهيَ مواساةٌ لأهلِكَ وأحِبَّتِكَ .
أبوك " أبو جورج " المُترنّمِ باسمكَ والمُزدهي بحضورك ، هّدَّهُ رحيلُكَ وَذَبَحَهُ فِراقُكَ . وأمُّكَ كَلْمى ، قلبُها مُتْرَعٌ بالأحزان والأشواكِ من فِراقِكَ المُباغِتِ والصّادِمِ . فلماذا هذا الرحيلُ الكاوي ؟
كيف يرحَلُ عصفورٌ كان تَغريدُهُ يملأ البَيْتَ مَرَحًا وفرحًا . وَيُعَطّرُ حياةَ أهلِهِ بَلْسَمًا ورحيقًا .
جئناها لنعيشَها ولنشمَّ عبيرَها وعِطْرَها الفوّاحَ ، لا لنجرّبَ غدرَها ومكرَ أفاعيها ....فَحَذارِ مِنْ غَدْرِها .
قَوْسُ قُزَحٍ أخْفَتْهُ وَحَجَبَتْهُ غيومٌ . .نَجْمَةٌ خَبا نورُها . نيزَكٌ أضاء في سماءِ البيتِ ورحلَ . هَلْ
كُنْتَ سرابًا ؟ لماذا زار إلهُ الموت هذا البيت الوادعَ المحبَّ للحياة وللناس ؟
كيف نحكيك في قاموسِ الأهْلِ ( جورج الذي كان ) ، وصورتُك كانت ، وستبقى مطبوعةً في
عُيونِهِم وقُلوبِهِم . الابنُ صورَةٌ مَنْقوشَةٌ في شرايينِ الأمِّ وتلافيفِ ذاكرةِ الأبِ والأخوةِ والأخوات .
مصابُكَ / مصابُنا يا أبا جورج جَلَل .والفاجع أليمٌ ، .تدمى لَهُ القلوب ، لكن عزاءنا جميلٌ بهذه
المواكبِ والحشود الكَلْمى والمحبّة.. كُلُّهُم أبناؤكَ . . لن تبكي عبلين الباقي في القلوب
والعيون !
صَبْرًا جميلًا أمامَ نوائِبِ الدّهرِ الخؤونِ . تقولُ الحياةُ : لا بُدَّ ممّا لَيْسَ مِنْهُ بُدُّ ! هذا دينُها وَدَيْدَنُها مُذ كانَت .
هيَ الحياةُ مواجِعٌ ، ترسُمُ خُطاها وتطحَنُ الأخْضَرَ واليابِسَ ، ولا مَفَرُّ مِنْ قضائِها المُبْرَمِ !
جَرّبَها الآباءُ والأجدادُ وقالوا فيها :" مَشَيْناها خُطى كُتِبَتْ عَلَيْنا / وَمَنْ كُتِبَتْ علَيْهِ خُطى مَشاها
/ وَمَنْ كانَتْ مَنِيّتُهُ بأرْضٍ / فَلَيْسَ يَموتُ في أرْضٍ سِواها " .
السّلامُ لروحِهِ ! لِيُطَوَّبْ تِذكارُهُ ! ولْتَبْقَ ذِكْراهُ العطرة تتضوَّعُ مِسْكا وبخورًا ولُبانًا ، ولأهْلِهِ
وأحبّائِهِ ومعارِفِهِ الصّبْرُ والسّلْوانُ .