تواصل معنا عبر الفيسبوك | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
في رحيل هارون هاشم رشيد :
شاعر التغريبة الفلسطينية
د.سمير حاجّ
رحل هارون هاشم رشيد ، زَيْتونَةُ الشّعرِ الفلسطينيّ المُعَمّرة وشاعر الخَيْمَة والبيارة والعَوْدة. رحل شاعر مزامير الغربة الفلسطينية وعاشقُ يافا ..يافا التي حَمَلَها عُرْبونَ مَحَبّةٍ ، في قَلْبِهِ الكَسيرِ المُتْعَبِ ، وَقَمَرًا مُضيئًا وَنَسيمًا بَليلًا، يُخَفّفُ لَفْحاءَ غُرْبَتِهِ الحارقة . يافا التي زارها فيزيقيًا العام 1996 وكحّل عيْنيْه ببحرها ومينائها وبيت رفيقة دربه ، الباقي في حي العجمي بعد أن " خلت من أهلها الدار " . رَحَلَ شاعرُ الغرباء ، بعد غُرْبَتَيْن قَسْرِيَتَيْنِ في مصر وكندا ، وليلى الطفلة اليافية ما زالت تنوب في حلمها الطفوليّ حول يافا ، تَسْألُ وَتسائِلُ في مَزْمورِهِ " مع الغُرَباءِ "- 1951 ، المَسفوعِ باللحن الرحبانيّ الحزين ، والمُنْسابِ من حُنجرة المطربة فيروز : أبي ... / قُلْ لي بحقّ الله / هَلْ نَأتي إلى " يافا " ؟ فإنّ خيالَها المَحْبوبَ / في عَيْنَيَّ قَدْ طافا / أنَدْخُلُها أعزاءَ / برغمِ الّدَهْرِ ...أشْرافا ؟ / أَأدْخُلُ غُرْفَتي ، قُلْ لي / أأدْخُلُها ، بِأحلامي ؟ وَألْقاها ، وتَلْقاني ! / وَتَسْمَعُ وَقْعَ أقْدامي ! / أأدْخُلُها بهذا القَلْب ؟ / هذا المُدْنَفِ الظّامي ".
ومن الصدف أن الكاتبة مروة جبر ، زوجة الشاعر فيما بعد و"شريكة المعاناة " كما لقّبها ، كانت في الصف الخامس في مدرسة مخيمات اللاجئين في خان يونس ، بعد الاقتلاع والتهجير من يافا ، حين درست هذه القصيدة ، كما سردت في سيرتها " نداء السّنونو "—2004 :
" كنا في الصف الخامس ،عندما أحضرت المعلمة بيدها كتابًا من الشعر ، وأخذت تكتب على السّبّورة قصيدةً لنحفظها ، وأخذنا نكتب في دفاترنا ما تكتبه المعلّمة : أتَتْ لَيْلى لوالدِها / وفي أحداقِها ألَمُ /وفي أحشائها نارٌ / مِنَ الأشواقِ تضْطَرِمُ ..." وقد استعارت مَرْوَة الكتاب من صديقتها ، بحْثًا عن اسمها في الشّعر حيث كان لها زميلات وردت أسماؤهن في القصيدة مثل ليلى، سلوى، نجوى، بُشْرى ، وتسرد "لكنّني للأسف لم أجد لاسمي أثرًا ، فأصبت بالإحباط ، ولم أكن أدري حينها أنّ القدر رسم خطته لارتباطي بكاتب هذه الأبيات ، بعد خمسة عشرة عامًا من ذلك التاريخ ،وكنت كلّما سمعت فيروز تغنّي تلك القصيدة ، تعاودني ذكريات الطفولة ..." .
وللتنويه والأمانة الأدبية ، بسبب ريادة الأخويْن رحباني عاصي ومنصور وإبداعهما في كتابة شعر يعبّر بصدق وحرارة عن النكبة الفلسطينية ، ولأنّ المطربة فيروز غنّت للشاعر هارون مقاطع من قصيدة "مع الغرباء" من تلحين الأخوين رحباني ، فقد وقع التباس لدى كثيرين من الكتاب والدارسين في نسب قصيدة "سنرجع يومًا إلى حيّنا " التي تغنّيها المطربة فيروز، إلى الشاعر هارون هاشم رشيد ، وهي في الحقيقة من تأليف الأخوين رحباني عاصي ومنصور، وقد وقعت في الخطأ نفسه حين نشرت مقابلة معه العام 2008 في موقع "إيلاف " ، وبعد الفحص تبيّن لي أنّ القصيدة للأخوين رحباني ، وهي لم ترد أصلًا في ديوان الشاعر هارون أو مؤلفاته .
رحل شاعر المدائن الفلسطينية ، رحل يولسيس الشعر الفلسطينيّ بعيدًا في صقيع كندا . رحل متَيّم يافا مُلْهِمَتُهُ ومؤلِمَتُهُ ، مدينته الأثيرة بين مدن العالم التي بقي ينوب حولها في أشعاره ، والتي قصمت ظهره حسرةً ووَجَعًا ، بفعل النكبة واقتلاع وتشريد أهلها في فيافي الغُربة ، وقد حَبَاها بديوان خاصّ " المُبْحِرون إلى يافا " (2004 ) حمّلهُ خَمْسَ عَشْرَةَ قَصيدةً ، وزيّنَتِ الغلافَ لَوْحَةٌ للفنّانة تمام الأكحل ، وختم الديوان بقصيدة " بيت حبيبتي المأسور " إشارة إلى بيت رفيقة دربه وشريكة حياته ، الكاتبة مروة جبر ، وقد كتب هذه القصيدة العام 1996، حين أتى مدينة يافا ووقف في حي العجمي ، أمام بيت حماه أديب جبر وفاءً لطلبها ، ويقول فيها :
وَقَفْتُ ، هناكَ فَوْقَ التّلِ / أسأل سيّدي العجمي / وفي عيني نهرُ الحُزْن / والأشْواقِ والألَمِ /أمامي دارُها البَيْضاءُ / دارُ حبيبتي حُلْمي / تكادُ تهبُ ، تحْضُنُني / بِفَيْضِ الودّ والشّمَمِ / تقول : حبيبتي وُلِدَتْ / هُنا في منزل الكرم / هُنا في بيتها المزروع / مثل النّجم والعلم / هُنا في مَنْزل الأشواق / والأحلام والنّعم / هُنا حَيْثُ " أديبُ الجبر " / جابر كلّ مُحْترم ".
هذا الغزيّ المَوْلِد ، ابن حارة الزيتون التي غادرها العام 1967 ، ، والذي ظنّه الكثيرون يافيّا ، لكثرة ما حمل يافا في أشعاره ، التقيته في بيته في القاهرة بتاريخ 2008/1/27 قبل أن يهاجر إلى كندا ، بحضور شطره الثاني شريكة حياته ، وأجريت معه حوارًا حول مسيرته الشعرية ، وأهديته كتابي " يافا بيّارة العطر والشّعر " ، ولفت انتباهي ، ما حبّر لي في الإهداء على مؤلفين أهداني إياهما ، " إلى شريكي في حبّ يافا .." و " إلى الأخ العزيز شقيق الوطن .." قاموسه هذا منحوت من طبيعة فلسطين التي شكّلت أضلاع قصائده.
في جلستنا المعطّرة بزنابق المودّة والشعر، والضيافة الفلسطينية ، باح لي أن قصّة ليلى في قصيدته " مع الغرباء" التي غنّتها المطربة فيروز هي " فعلاً حقيقية ، من إحدى الأسر اليافية التي لجأت الى معسكر البريج إبان النكبة ، لقد شاءت الظروف أن أكون أحد المتطوعين في مساعدة اللاجئين.. الناس النازحون الذين يأتون عبر المراكب.. وكانت المدارس والمساجد أماكن اللجوء الأولى ، ومن ثم المخيمات . لقد رأيت المأساة بأم عيني ، فبعد أن كان هؤلاء الناس يعيشون في بيوتهم وبياراتهم وكرومهم ومدارسهم.. أصبحوا لاجئين في خيام . وكنت من أوائل من دقوا أوتاد هذه الخيام ، وكانت أول قصيدة كتبتها بعد العام 1948 تدور حول الخيمة. حين استقر النازحون في المخيمات والمعسكرات نشأت بيننا زيارات.. وحدث في أحد الأيام أن كان البرد شديدًا ، فسمعت طفلة من إحدى الأسر اليافية ، التي تعيش في مخيم البريج ، تنطق بعد أن شعرت بالبرد والغربة ( ليش يابا أحنا غربا هونا؟! ) ، التقطت هذه الكلمة وأوحت لي بالقصيدة. كان يومًا ماطرًا ، وقفت كثيرًا على الشارع العام ، وكانت القصيدة تعيش معي.. خففت من ملابسي وبدأت أكتب ، وكانت " مع الغرباء " . وفي صبيحة اليوم التالي، أرسلتها الى ألبير أديب محرر" الأديب " البيروتية ، وقد نشرها على صفحتين في وسط العدد. ثم قرئت في إذاعة القدس ، من قبل المذيع إبراهيم السمان. بعد ذلك لحّنها الأخوان رحباني وغنتها فيروز".
وحين أتى يافا العام 1996 ( قالت حبيبتي رفيقة عمري ، عندما تأتي (يافا) وتقف على التل ، حيث هدير البحر ، وحيث السيّد (العجمي) فإذا أمامك ، بيت أبيض ..ذلك هو البيت الذي ولدت فيه ) .وأخبرني أنّه حين اهتدى إلى بيت زوجته برفقة سائق مقدسيّ ، قرع الباب فخرج أصحابه العرب ، طرح عليهم السلام وطلب رؤية البيت تلبيةً لوصية زوجته ، وقد ذهلوا حين قال لهم ، إنّ هذا البيت كان لأهل زوجته ، فسألوه هل أتيت لتأخذ البيت ؟ أجابهم بلطف "يسلم البيت لكم ، وأنا سعيدٌ أنّكم أنتم عربٌ سكّانه " .
بعد النكبة وتغريبة قسم من أهالي يافا إلى غزة ، كما تحدّث في لقائنا ، كانت أول قصيدة كتبها عن الخيمة، حتى قبل أن ينقل لاجئين الى الخيام ، ونشرها في جرائد غزة، ومما جاء
فيها : " أخي مهما ادلهم الليل/ سوف نطالع الفجرا / ومهما هدنا الفقر / غدا سنحطم الفقرا /
أخي والخيمة السوداء/ قد أمست لنا قبرا / غدا سنحيلها روضا / ونبني فوقها قصرا /
غدا يوم انطلاق الشعب/ يوم الوثبة الكبرى / فلسطين التي ذهبت / سترجع مرة أخرى" ، وقد غنّاها ولحنها المطرب المصري محمّد فوزي .
حمل شعره الوجع الفلسطينيّ اللاحدوديّ وحنظل النكبة ، فالحبيبة حزينة والطفل " يَحْلُمُ بالدّفْتَرِ ، بالكتاب " ، كما أنّهُ تفاعل مع كلّ حدثّ مرّ على شعبه المصلوب ، وقد عانى كثيرًا بسبب جيناته الفلسطينية كما جاء في قصيدته "فلسطيني" : " حروف اسمي تلاحقُني / تُعايِشُني ..تُغْذيني / تبثُ النارَ في روحي / وتَنْبِضُ في شراييني /هو اسمي ..إنّني أدري / يُعَذّبُني ..وَيُشْقيني / تُطاردُني عُيونُهُمُ /لإنّ اسمي فلسطيني/ تُطاردُني ..تُلاحقني /تُتابعني ..وتُؤذيني /لأنّ اسمي فلسطيني / كما شاءوا أضاعوني " .
أصدر أكثر من 20 عملا شعريا، وكتب الرواية والمسرحية والدراسة الأدبية. من أبرز أعماله الشعرية: مع الغرباء(القاهرة، 1954)، عودة الغرباء(بيروت، 1956)، وفي جانر الدراسة
" الشعر المقاتل في الأرض المحتلة " و " مدينة وشاعر : حيفا والبحيري " .
في شعر هارون هاشم رشيد أحزان ودموع حرّى ، ولغة صافية مرهفة الحسّ ، مشحونة بالصور البحرية ، ونسيج قصصي متكئ على مداميك الدراما .. تنساب قصائد التفعيلة عنده مثل نهر متدفق ، تلمس القلب وتأسره . ويبقى السؤال هل عشق الشّاعر يافا المدينة التخييلية ..المكان المفقود ، أم المدينة المعيشة من قبل ليلاه ؟ لقد أشعلت يافا الحزينة حرائق قلبه ، فصبغها بهالة شعرية متلألئة تميس عروسًا للمدن في الشعر العربي.