X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
فنجان ثقافة
اضف تعقيب
03/08/2020 - 11:35:10 pm
في رحيل  هارون هاشم رشيد - د.سمير حاج

في رحيل  هارون هاشم رشيد :

شاعر التغريبة الفلسطينية

د.سمير حاجّ

رحل  هارون هاشم رشيد ، زَيْتونَةُ الشّعرِ الفلسطينيّ المُعَمّرة وشاعر الخَيْمَة والبيارة والعَوْدة. رحل شاعر مزامير الغربة الفلسطينية وعاشقُ يافا ..يافا التي  حَمَلَها عُرْبونَ مَحَبّةٍ ،  في قَلْبِهِ الكَسيرِ المُتْعَبِ ، وَقَمَرًا مُضيئًا  وَنَسيمًا بَليلًا،  يُخَفّفُ لَفْحاءَ غُرْبَتِهِ الحارقة  .  يافا التي زارها فيزيقيًا  العام 1996 وكحّل عيْنيْه ببحرها ومينائها وبيت رفيقة دربه ، الباقي في حي العجمي  بعد أن " خلت من أهلها الدار " . رَحَلَ  شاعرُ الغرباء ،  بعد غُرْبَتَيْن قَسْرِيَتَيْنِ في مصر وكندا  ، وليلى الطفلة اليافية ما زالت  تنوب في حلمها الطفوليّ حول يافا ،  تَسْألُ وَتسائِلُ في مَزْمورِهِ  " مع الغُرَباءِ "- 1951 ، المَسفوعِ  باللحن الرحبانيّ الحزين ، والمُنْسابِ من حُنجرة المطربة  فيروز :  أبي ... / قُلْ لي بحقّ الله / هَلْ نَأتي إلى " يافا " ؟ فإنّ خيالَها المَحْبوبَ / في عَيْنَيَّ قَدْ طافا / أنَدْخُلُها أعزاءَ / برغمِ الّدَهْرِ ...أشْرافا  ؟ / أَأدْخُلُ غُرْفَتي ، قُلْ لي / أأدْخُلُها ، بِأحلامي ؟ وَألْقاها ، وتَلْقاني ! / وَتَسْمَعُ وَقْعَ  أقْدامي ! / أأدْخُلُها بهذا القَلْب ؟ /  هذا المُدْنَفِ الظّامي ".

ومن الصدف  أن الكاتبة مروة جبر ، زوجة الشاعر فيما بعد و"شريكة المعاناة " كما لقّبها ، كانت في الصف الخامس في  مدرسة مخيمات اللاجئين في خان يونس ،  بعد الاقتلاع والتهجير من يافا ، حين درست هذه القصيدة ،  كما سردت في سيرتها " نداء السّنونو "—2004  :

" كنا في الصف الخامس ،عندما أحضرت المعلمة بيدها كتابًا من الشعر ، وأخذت تكتب على السّبّورة قصيدةً لنحفظها ، وأخذنا نكتب في دفاترنا ما تكتبه المعلّمة : أتَتْ لَيْلى لوالدِها / وفي أحداقِها ألَمُ  /وفي أحشائها نارٌ / مِنَ الأشواقِ تضْطَرِمُ ..." وقد استعارت مَرْوَة الكتاب من صديقتها ،  بحْثًا عن اسمها في الشّعر حيث كان لها زميلات وردت  أسماؤهن في القصيدة مثل ليلى، سلوى، نجوى، بُشْرى ، وتسرد  "لكنّني للأسف لم أجد لاسمي أثرًا ، فأصبت بالإحباط ، ولم أكن أدري حينها أنّ القدر رسم خطته لارتباطي بكاتب هذه الأبيات ، بعد خمسة عشرة عامًا من ذلك التاريخ ،وكنت كلّما سمعت فيروز تغنّي تلك القصيدة ، تعاودني ذكريات الطفولة ..." .

وللتنويه والأمانة الأدبية ، بسبب ريادة الأخويْن رحباني عاصي ومنصور وإبداعهما في كتابة شعر يعبّر بصدق وحرارة عن النكبة الفلسطينية ، ولأنّ المطربة فيروز غنّت للشاعر هارون  مقاطع من قصيدة "مع الغرباء"  من تلحين الأخوين رحباني ، فقد وقع  التباس لدى كثيرين من الكتاب والدارسين  في نسب قصيدة "سنرجع يومًا إلى حيّنا "  التي تغنّيها المطربة فيروز،  إلى الشاعر هارون هاشم رشيد ، وهي في الحقيقة من تأليف الأخوين رحباني عاصي ومنصور، وقد وقعت في الخطأ نفسه حين نشرت مقابلة معه  العام 2008 في موقع "إيلاف " ، وبعد الفحص تبيّن لي أنّ القصيدة للأخوين رحباني ، وهي لم ترد أصلًا في ديوان الشاعر هارون  أو مؤلفاته .

رحل شاعر المدائن الفلسطينية  ، رحل يولسيس الشعر  الفلسطينيّ بعيدًا في صقيع كندا  . رحل  متَيّم يافا  مُلْهِمَتُهُ ومؤلِمَتُهُ ، مدينته الأثيرة بين مدن العالم التي بقي ينوب حولها في أشعاره ، والتي قصمت ظهره حسرةً ووَجَعًا ، بفعل النكبة  واقتلاع وتشريد أهلها في فيافي الغُربة ، وقد   حَبَاها  بديوان خاصّ  " المُبْحِرون إلى يافا " (2004 ) حمّلهُ  خَمْسَ عَشْرَةَ قَصيدةً  ، وزيّنَتِ الغلافَ لَوْحَةٌ للفنّانة تمام الأكحل ، وختم الديوان بقصيدة  " بيت حبيبتي المأسور " إشارة إلى بيت رفيقة دربه وشريكة حياته ، الكاتبة مروة جبر ، وقد كتب هذه القصيدة  العام 1996،  حين أتى مدينة يافا ووقف في حي العجمي ، أمام بيت حماه أديب جبر وفاءً لطلبها ، ويقول فيها :

وَقَفْتُ ، هناكَ فَوْقَ التّلِ / أسأل سيّدي العجمي / وفي عيني نهرُ الحُزْن / والأشْواقِ والألَمِ /أمامي دارُها البَيْضاءُ / دارُ حبيبتي حُلْمي /  تكادُ تهبُ ، تحْضُنُني / بِفَيْضِ الودّ والشّمَمِ  / تقول : حبيبتي وُلِدَتْ / هُنا في منزل الكرم / هُنا في بيتها المزروع / مثل النّجم والعلم / هُنا في مَنْزل الأشواق / والأحلام والنّعم / هُنا حَيْثُ " أديبُ الجبر " /  جابر كلّ مُحْترم ".

هذا الغزيّ المَوْلِد ،  ابن حارة الزيتون التي غادرها العام 1967 ،  ، والذي  ظنّه الكثيرون يافيّا  ، لكثرة ما حمل يافا في أشعاره ، التقيته في بيته في القاهرة بتاريخ   2008/1/27  قبل أن يهاجر إلى كندا ، بحضور شطره الثاني شريكة حياته  ،  وأجريت معه حوارًا حول مسيرته الشعرية ، وأهديته كتابي " يافا  بيّارة العطر والشّعر " ،  ولفت انتباهي ، ما حبّر لي  في الإهداء على مؤلفين أهداني إياهما ، " إلى شريكي في حبّ يافا .." و " إلى الأخ العزيز شقيق الوطن .." قاموسه هذا منحوت من طبيعة فلسطين التي شكّلت أضلاع قصائده.

في جلستنا المعطّرة بزنابق المودّة  والشعر،  والضيافة الفلسطينية ، باح لي أن قصّة ليلى في قصيدته " مع الغرباء" التي غنّتها المطربة فيروز هي  "  فعلاً حقيقية ، من إحدى الأسر اليافية  التي لجأت الى معسكر البريج  إبان النكبة ،  لقد شاءت الظروف أن أكون أحد المتطوعين في مساعدة اللاجئين.. الناس النازحون الذين يأتون عبر المراكب.. وكانت المدارس والمساجد أماكن اللجوء الأولى ،  ومن ثم المخيمات . لقد رأيت المأساة بأم عيني ،  فبعد أن كان هؤلاء الناس يعيشون في بيوتهم وبياراتهم وكرومهم ومدارسهم.. أصبحوا لاجئين في خيام . وكنت من أوائل من دقوا أوتاد هذه الخيام ، وكانت أول قصيدة كتبتها  بعد العام 1948 تدور حول الخيمة. حين استقر النازحون في المخيمات والمعسكرات نشأت بيننا زيارات.. وحدث في أحد الأيام أن كان البرد شديدًا ، فسمعت طفلة من إحدى الأسر اليافية ،  التي تعيش في مخيم البريج ، تنطق بعد أن شعرت بالبرد والغربة ( ليش يابا أحنا غربا هونا؟! ) ، التقطت هذه الكلمة وأوحت لي بالقصيدة.  كان يومًا ماطرًا ،  وقفت كثيرًا على الشارع العام ، وكانت القصيدة تعيش معي.. خففت من ملابسي وبدأت أكتب ، وكانت " مع الغرباء " . وفي صبيحة اليوم التالي، أرسلتها الى ألبير أديب محرر" الأديب  " البيروتية ، وقد نشرها على صفحتين في وسط العدد. ثم قرئت في إذاعة القدس ، من قبل المذيع إبراهيم السمان.  بعد ذلك  لحّنها  الأخوان رحباني وغنتها فيروز".

وحين أتى يافا العام 1996 ( قالت حبيبتي رفيقة عمري ، عندما تأتي (يافا) وتقف على التل ، حيث هدير البحر ، وحيث السيّد (العجمي) فإذا أمامك ، بيت أبيض ..ذلك هو البيت الذي ولدت فيه ) .وأخبرني أنّه حين اهتدى إلى بيت زوجته برفقة سائق مقدسيّ ، قرع الباب فخرج أصحابه العرب ، طرح عليهم السلام وطلب رؤية البيت تلبيةً لوصية زوجته ، وقد ذهلوا حين قال لهم ، إنّ هذا البيت كان لأهل زوجته ، فسألوه هل أتيت لتأخذ البيت ؟ أجابهم بلطف "يسلم البيت لكم ، وأنا سعيدٌ أنّكم أنتم عربٌ سكّانه " .

بعد النكبة وتغريبة قسم من أهالي يافا إلى غزة ، كما تحدّث في لقائنا ،   كانت  أول قصيدة كتبها عن الخيمة، حتى قبل أن ينقل  لاجئين الى الخيام ،  ونشرها  في جرائد غزة، ومما جاء

 فيها : " أخي مهما ادلهم الليل/ سوف نطالع الفجرا / ومهما هدنا الفقر / غدا سنحطم الفقرا /

أخي والخيمة السوداء/ قد أمست لنا قبرا / غدا سنحيلها روضا / ونبني فوقها قصرا /

غدا يوم انطلاق الشعب/ يوم الوثبة الكبرى / فلسطين التي ذهبت / سترجع مرة أخرى" ، وقد غنّاها ولحنها المطرب المصري محمّد فوزي .

حمل شعره الوجع الفلسطينيّ  اللاحدوديّ وحنظل النكبة ،  فالحبيبة حزينة والطفل " يَحْلُمُ بالدّفْتَرِ ، بالكتاب " ، كما أنّهُ  تفاعل مع كلّ حدثّ مرّ على شعبه المصلوب ، وقد عانى كثيرًا بسبب جيناته الفلسطينية  كما جاء في قصيدته  "فلسطيني" : " حروف اسمي تلاحقُني / تُعايِشُني ..تُغْذيني / تبثُ النارَ في روحي / وتَنْبِضُ في شراييني /هو اسمي ..إنّني أدري / يُعَذّبُني ..وَيُشْقيني / تُطاردُني  عُيونُهُمُ /لإنّ اسمي فلسطيني/ تُطاردُني ..تُلاحقني /تُتابعني ..وتُؤذيني /لأنّ اسمي فلسطيني / كما شاءوا أضاعوني " .

أصدر أكثر من 20 عملا شعريا، وكتب الرواية والمسرحية والدراسة الأدبية. من أبرز  أعماله الشعرية: مع الغرباء(القاهرة، 1954)، عودة الغرباء(بيروت، 1956)، وفي جانر الدراسة

" الشعر المقاتل في الأرض المحتلة " و "  مدينة وشاعر : حيفا والبحيري " .

في شعر هارون هاشم رشيد  أحزان ودموع حرّى ، ولغة  صافية  مرهفة الحسّ ، مشحونة بالصور البحرية ، ونسيج  قصصي  متكئ على مداميك الدراما .. تنساب قصائد التفعيلة عنده مثل نهر متدفق   ، تلمس القلب وتأسره . ويبقى السؤال هل عشق الشّاعر يافا  المدينة  التخييلية ..المكان المفقود ، أم المدينة  المعيشة  من قبل ليلاه ؟  لقد أشعلت يافا الحزينة  حرائق قلبه ،  فصبغها بهالة شعرية متلألئة تميس عروسًا للمدن في الشعر العربي.




Copyright © elgzal.com 2011-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت