X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
فنجان ثقافة
اضف تعقيب
21/10/2020 - 10:55:08 am
عندما تتأدّب الكيمياء وتتفنّن والأدب والفنّ يتكميآن بقلم: علي هيبي

عندما تتأدّب الكيمياء وتتفنّن والأدب والفنّ يتكميآن

(قراءة في نوتات الكيميائيّ لأشرف إبريق)

بقلم: علي هيبي

أصدفة أم ميعاد:

كنت التقيته ولأوّل مرّة في أمسية شعريّة في قرية "شعب" عندما أهداني البروفيسور "أشرف إبريق" الكيميائيّ ابن قرية "أبو سنان" الجليليّة الّذي انزلق إلى الكتابة الأدبيّة انزلاقًا حسنًا، كتب في آخر الإهداء وقبل توقيع اسمه الكبير يتمنّى لي "قراءة ممتعة" ولم يقل مفيدة، لأنّ أوّل ما نبتغيه ونجتنيه من الكتابة الأدبيّة هو المتعة، ومن ثمّ نجتني الفائدة، لذلك فقد أصاب الأستاذ "أشرف إبريق" في إهدائه فكسب الأجريْن: الاجتهاد والإصابة. والحقيقة أنّي لست متّهمًا كي أعترف أنّني تمتّعت وشعوري بالمتعة كان كأنّه تلبية لدعوة الكاتب "إبريق" حين كتب "قراءة ممتعة"، وقد أضاف إلى مادّة صحن طعام متعتي الأدبيّة مادّة شهيّة أخرى، هي صحن من صحون الفائدة المعرفيّة الكيميائيّة على مائدة "سياسة النّكهات" الّتي تحدّث عنها في إحدى خواطره الجميلة، وقد احتلّت تلك المائدةَ صحونُ "الكبّة والحوسة" العربيّة الشّهيّة القادمة من مركّبات العناصر السّاخنة ومخلوطات النّكهات الباردة المتعدّدة والّتي تجعل منها جميعًا موسيقى مفعمة بالنّوتات المتآلفة والأطعمة المتناغمة. فهل كان لقاؤنا الأوّل صدفة سنحت أم ميعادًا متّفقًا عليه مسبقًا.

نوتات على مفتاح صول الأدب:

وما قلته حول هذا الموضوع يؤكّد ما قاله الصّديق الكاتب "فتحي فوراني" في مقالته الرّقيقة حول هذه النّوتات والّتي نشرت في ملحق جريدة "الاتّحاد" يوم الجمعة (25/9/2020) وجاءت تحت عنوان "نوتات الكيميائيّ في الزّيّ الأدبيّ" وفيها يصف انطباعاته وتجربته الذّاتيّة أثناء قراءته للكتاب فيقول: "فتفتّحَتْ أمامي دنيا زرقاء رحت أبحر بهدوء موسيقيّ في المياه الهادئة. حتّى قرأت الكتاب كاملًا من ألفه إلى يائه. والحقّ أنّني استمتعت جدًّا برحلتي الثّقافيّة مع هذه النّوتات الجميلة. ولا أخفي عليكم أنّني فوجئت ولم أتوقّع أن ألتقي هذه الدّنيا الواسعة الّتي تزخر بها "نوتات الكيميائيّ". فقد جمع المؤلّف بين قارورة الكيمياء العلميّة وقارورة العطر الأدبيّة وسكبهما في قارورة واحدة، كيميائيّة أدبيّة. وقدّم هذا التّوأم الثّنائيّ على مائدة إبداعيّة شهيّة واحدة. وهو أمر غير مألوف في المشهد الأدبيّ العامر حامضًا وحلوًا".

لقد قرأت الخواطر أو النّوتات كلًّا على حدة، وواحدة تلو الأخرى، كطالب ثانويّ يمسك بقائمة التّرتيب الدّوريّ وينقّل عيون رغبته في العناصر عنصرًا وراء عنصر كي لا تختلط عليه المركّبات ولا تتراكم المخلوطات "فتضيع الطّاسة" أو القارورة الكيميائيّة أو أنبوب الاختبار فتُفتقد اللّذّة الفنيّة في غمار كيمياء الحياة الّتي ألمّت بها الهموم الفلزّيّة من عناصر غير نبيلة، وفي غمار تداعي الأفكار اللّافلزّيّة في الخواطر الأدبيّة، فالمزيج العضويّ المركّب - وليس المخلوط - الّذي أراده البروفيسور "إبريق" هو أن نتفاعل مع الكيمياء الّتي تتأدّب (تصبح أدبًا) وتتفنّن (تصبح فنًّا) وننفعل من الأدب والفنّ اللذيْن يتكميآن، (يصبحان جزءًا من الكيمياء) فتصبح الكتابة العربيّة كما قال الكاتب: "تتواصل فيها الحروف كتواصل الذّرّات في الجزيئات ممّا يتيح الفرصة لهندسة الكلمات بطرق مختلفة، وكما للجزيئات جمالها الشّكليّ، هكذا تصبح الكلمات عند هندستها ليست ذات معنى فقط، بل "كلمات ليست كالكلمات"، ملهمة بشكلها، جميلة، مزركشة، متكاملة قلبًا وقالبًا".

انتماء قوميّ وكيميائي:

عندما قال الكاتب "إبريق" الكيميائيّ جملته الأولى في نصّه الأوّل: "سجّل أنا كيميائيّ" وتابع على النّهج الدّرويشيّ في تعريف هويّته العلميّة، كما عرّف "محمود درويش" هويّته القوميّة "سجّل أنا عربيّ" في قصيدته "بطاقة هويّة"، عرفنا أنّ الانتماء إلى الكيمياء عند الكاتب لا يقلّ عن الانتماء إلى العروبة عند "درويش" ولكنّ ذلك الانتماء العلميّ لا يقلّل من الاعتزاز العروبيّ عند الكاتب، وقد أشار إلى اعتزازه بالانتماء إلى عروبته وبيئته القرويّة الفلّاحيّة وحبّه لهما رغم الشّعور بالإحباط ممّا يسود في مجتمعنا العربيّ الآن من ظواهر سلبيّة، أبرزها العنف والابتعاد عن القيم الفلّاحيّة الأصيلة والبعد عن القراءة والثّقافة والميل إلى النّاحيّة المادّيّة في الحياة والكسب السّريع وإهمال الأخلاق القويمة والجوانب الإيجابيّة الّتي تجعل الحياة أجمل وأنبل وأرقى وأسعد. وقد أشارت الباحثة "د. لنا وهبة" إلى ذلك التّناصّ في مستهلّ مقالتها النّقديّة الرّصينة حول النّوتات والّتي نشرتها في ملحق جريدة الاتّحاد" يوم الجمعة (4/9/2020) تحت عنوان "نوتات الكيميائيّ للبروفيسور أشرف إبريق فسيفساء سرديّة، حاشدة بالتّجارب الحياتيّة" وقد قالت: "استهلّ أشرف كتابه بقصيدة حملت عنوان "سجّل أنا كيميائيّ"، ويُلحظ أنّ هناك تناصًّا واضحًا بين قصيدة درويش الشّهيرة "سجّل أنا عربيّ" وبين قصيدة أشرف "سجّل أنا كيميائيّ" ، فعالم الكيمياء عند أشرف متجذّر في أعماقه وفي الصّميم، تمامًا كَمحمود درويش عندما يتحدّث عن وطنيّته الحقّة الّتي تتغلغل في دمائه، فالكيمياء تسري في عروق أشرف تمامًا كأنهار الوطن الّتي تتدفّق في عروق درويش". لقد بلغت الكيمياء كتجربة حياة عند الكاتب حتّى النّخاع، ففي الإهداء الّذي جعله لابنه "جود" وابنته "ريان" نقرأ: "إلى ابني "جود" وابنتي "ريان" اللذيْن استمدّ طاقتي منهما ويجعلان الحياة أجمل وأسعد. فإن كنت ذرّة الأوكسجين في الماء فهما ذرّتا الهيدروجين اللتان يكتمل بهما مركّب الحياة – معهما تستمرّ الحياة بروعتها".   

قطرة تجربة كيميائيّة:

رافقتني مبادئ علم الكيمياء البسيط أو رافقتها برحلة قصيرة جدًّا، على مدى الصّفّيْن: التّاسع والعاشر الثّانويّين في مدرسة "يني" في قرية "كفر ياسيف" الجليليّة، وقد أحببت الموضوع لكنّني ملت بعد ذينك الصّفّيْن إلى الاتّجاه الأدبيّ واللّغة والنّصوص الأدبيّة والتّاريخ والرّياضيّات البسيطة مبتعدًا عن دقّة العلوم غير البسيطة والمعقّدة فأحببت الهندسة المستوية وتطابق المثلّثات ومبادئ الكيمياء والمعادلات الأولى الّتي تكوّن الماء بلا شذوذ والحوامض والقواعد، وكرهت الهندسة الفراغيّة والفيزياء الّتي لم أفقه منها أكثر من تجربة "طورشللي" عن تّمدّد السّاخن وتقلّص البارد وعن شذوذ الماء عن القاعدة.

ولشغفي بما تعلّمته من قطرة تجربة صغيرة كنت أدمج فيما أكتب موظّفًا تلك المعلومات البسيطة في كتابتي الأدبيّة فقلت مرّة: "عوّلنا على التّفاعل النّبيل بين الإنسان والكرامة، بين العروبة وفلسطين، بين بيولوجيا الدّماء الزّكيّة وفيزياء الوجود ولم نعوّل ولم نراهن لا على الأذلّاء في الخليج ولا عليهم في المحيط، ولا على تفاعلاتهم المائيّة التّي تسيل تميّعًا وخيانة وخنوعًا، لم نعوّل ولم نراهن على عناصر اللّافلزّ الهشّة، ولا على التّفاعلات الكيميائيّة السّياسيّة بين العناصر الفاسدة الّتي لا تفضي إلّا إلى (H2S) نراهن ونعوّل على الفلزّ الماحق للشّعب السّودانيّ وعلى الأكسجين السّاحق للشّعب البحريني وشعوب الجزيرة العربيّة وشعوبنا في اليمن ومصر والشّام والعراق والمغرب العربيّ، الّتي ستمحق أنظمة العار وأربطة الخزي وعناصر الخمول، هذه الشّعوب هي البرهان على نقاء الكيمياء الحرّ والكريم وعلى نبل عناصرها".

بمجرّد أن تقرأ عنوان الكتاب "نوتات الكيميائيّ" يأخذك بريق ما إلى عالم ليس كالعالم، ويخلق فيك من التّساؤلات الكثير، فما علاقة السّلّم الموسيقيّ ونوتاته بالتّرتيب الدّوريّ وعناصره؟ وما علاقة الموسيقى كنغمات فنّ مسموع بالكيمياء كحقائق علم ملموسّ؟ وما علاقة الذّرّة والجزيء والمركّب وسائر المصطلحات الكيميائيّة مع النّوتة ومفتاح الصّول والمقامات وسائر المصطلحات الموسيقيّة؟ وتقرأ الكتاب وتجد الجواب شافيًا عافيًا بين طيّات كلماته وجزيئاته وذرّاته الكيميائيّة المتفاعلة مع مقاماته ونوتاته ونغماته الفنيّة الموسيقيّة لينشئ ذلك المخلوط أدبًا جميلًا ممتعًا ومفيدًا، ولينشئ ذلك المركّب "نوتات الكيميائيّ" فتأتي تلك الخواطر الثّريّة في مضامينها ودلالاتها وأشكالها والمتماسكة العرى جوابًا على كلّ تساؤلاتك الأولى. ومع الإجابة عن تساؤلاتك تتذكّر وأنت مدرّس للأدب العربيّ قصيدة "مدّعي الفلسفة" للشّاعر العباسيّ المولِّد "أبي نواس" ومطلعها الشّهير: "دعْ عنْكَ لومي فإنَّ اللّومَ إغراءُ           وداوِني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ". وفيها بيتان جميلان ينطويان على معنى رفيع، يمتزج فيه جمال إيقاع الشّعر مع روعة علم الكيمياء ممّا يجعل لعنوان مقالتي مصداقيّة إضافيّة.

أمّا البيتان فهما: "رقّتْ عنِ الماءِ حتّى ما يلائمُها         لطافةً، وجفا عنْ شكلِها الماءُ

                        فلوْ  مزجْتَ  بها  نورًا  لمازجَها         حتّى    تولّد   أنوارٌ    وأضواءُ"

فإذا كان الماء والنور عنصريْن كيميائيّيْن، ووضعنا في أنبوب اختبار الماء الجافي والجافّ واللّافلزّ غير المشعّ مع عنصر الخمرة الرّقيقة والفلزّ المشعّ فلا يتلاءمان ولا يتفاعلان ولا ينتجان شيئًا وستفشل التّجربة، أمّا إذا وضعنا عنصر النّور الرّقيق والفلزّ المشعّ مع عنصر الخمرة المماثلة له وأجرينا ذلك التّفاعل فإنّه سيكون تفاعلًا ناجحًا وسينتج موادّ جديدة متصاعدة من الأنوار والأضواء.

ترتيب دوريّ فنّيّ:

قسّم الكيميائيّ الأديب نصوصه السّرديّة إلى ثلاث مجموعات كما تقسّم العناصر، ولم يشأ تحديدها بقصص أو خواطر أو مقالات، وعلى طريقة الكاتب "سعيد نفّاع" حين كتب تحت عنوان أحد كتبه "سمّها ما شئت"، فكلّ الكتابة نصوص في الحقيقة حيث يتّسع معنى المصطلح، ولكنّه يضيق اليوم لتصبح دلالته على نوع خاصّ من الكتابة تمتزج فيها عناصر مختلفة بل ومتناقضة أحيانًا، كالشّعر والنّثر والعلم والفنّ والطّول والقصر والدّقّة الواقعيّة مع الخيال المجنّح. وصدق كاتب النّصوص إذ اقتبس العالم "ألبرت أينشتاين" حين قال: "أعظم العلماء هم أيضًا فنّانون". وعنون إحداها بِ "كلّنا كيميائيّون، أهنّئك على لقبك الجديد" ومقتبسًا تحت العنوان من رواية "الخيميائيّ" للكاتب الرّوائيّ البرازيليّ "باولو كويليو". فكانّه بواسطة الأدب والفنّ المنخرطيْن في حياة النّاس ووجدانهم حتّى النّخاع، يجعل من عالمنا الكيميائيّ وجودًا عضويًّا قريبًا من النّاس وبمتناول الجميع من أناس قارئين وكتّاب وفنّانين.

وقد عنون قسمها الأوّل بِ "كيمياء الحياة" وجعل له فاتحة معبّرة عن اختراق الكيمياء لكلّ أجزاء حياتنا، من أقوال "لينوس باولنغ" العالم الكيميائيّ الشّهير: "كلّ جوانب عالمنا من ضمن ذلك السياسيّون والعلاقات الدّوليّة تتأثّر بالكيمياء". أمّا القسم الثاني فقد أعطاه عنوانًا آخر لا يذكر فيه الكيمياء هو "روابط إنسانيّة" ولكنّه تحت عنوان هذا القسم يتكلّم عن الكيمياء وتأثيرها على سائر أجزائنا وتفاصيل أشيائنا كما لم يتحدّث عنها في أيّ مكان آخر، ويجعل العلاقات الإنسانيّة كالأربطة الكيميائيّة تقوم على مبدأ الأخذ والعطاء والتّأثير المتبادل والمشاركة والمساواة.   

الكيمياء هي العصب:

رغم ما في هذه النّصوص من خصائص أدبيّة جماليّة لغة وأسلوبًا وتصويرًا إلّا أنّ الكيمياء الجميلة أيضًا تشكّل عصب هذه الخواطر/ النّصوص، فلن تجد نصًّا منها لا يحتوي على ذرّة أو عنصر أو مركّب أو معلومة كيميائيّة، لأنّ هذه النّوتات الجميلة عُزفت على أوتار قانون كيميائيّ كبير وليس على أوتار قانون موسيقيّ، ولذلك وبحقّ وبشكل لائق ومتّسق حقّ لسطور هذه النّصوص أن تعنون بالنّوتات والكيميائيّ كاتبها يستحقّ أن يكون "المايسترو" كما وصف نفسه عندما كان يقود فريق العمل والبحث فيصبح بذلك قائد الأوركسترا في هذا المختبر الأدبيّ والفنّيّ والعلميّ الرّائع. وقد أشارت الباحثة د. لنا وهبة" مرّة أخرى في مقالتها المذكورة سابقًا إلى الكتاب عامّة بوصف مقتضب دقيق فقالت: "كتاب معلوماتيّ، تثقيفيّ، فلسفيّ، سلس وانسيابيّ في أسلوبه، يزخر بالمعلومات العلميّة، وبالأفكار التّنويريّة التّصحيحيّة، والتّوعويّة الّتي تحفّز الأفراد عامّة والأجيال النّاشئة على الاستفادة من التّجارب الحياتيّة، والسّعي وراء تحقيق الأحلام والطّموحات، والتّسلّح بالعلم وبالقراءة كي تصير الحياة أجمل وأرقى. الكتاب عبارة عن نصوص سرديّة، حاشدة بالتّجارب الحياتيّة الّتي خاضها الكاتب، وكأنّ كلّ نصّ سرديّ قطعة من الفسيفساء، يتآلف مع باقي النّصوص لينتج لوحة فنيّة ملوّنة بألوان الحياة والتّجارب الإنسانية".

ولعلّني لا أجد اختلافًا في الرّؤية التّقييميّة بيني وبين الكتّاب الآخرين، خاصّة وأنّني قرأت المقالات المنشورة قبل أن يصلني الكتاب نفسه، فقد خلق فيّ ذلك فكرة "مسبقة" إيجابيّة عن الكتّاب قبل قراءته، وبعد قراءته بتمعّن وإعجاب، بإحساس بالفائدة العلميّة وشعور ممتع باللّذّة الفنّيّة والجماليّة، ورأيت تطابق تلك الأحاسيس عند من قرأت مقالاتهم، وكذلك ما سمعته من أصدقاء قرأوه قبلي، لم أندم على تلك الفكرة المسبقة الّتي أسهمت في دخولي إلى النّوتات برجلي اليمنى وعلى تسلّقي السّلّم الموسيقيّ فيها درجة درجة أو نوتة نوتة إن صحّ انسجام الكلام مع الكلام. وما زاد قناعتي ونال رضاي تلك الدّراسة التّفصيليّة الّتي كتبها أستاذي الفاضل د. "بطرس دلّة" في أواخر آب سنة (2020) حول الكتاب تحت عنوان "مع كتاب نوتات الكيميائيّ" ونشرت هي الأخرى في ملحق جريدة "الاتّحاد" يوم الجمعة (18/9/2020) وفيها تناول الكتاب وعالجه من كافّة جوانبه المضمونيّة والأسلوبيّة مبيّنًا التّناقضات الجميلة المتآلفة الّتي يحتوي عليها، وقد بيّن تجربته القرائيّة ومتعته المجتناة والّتي دفعته لاعتباره كتابًا متميّزًا وللكتابة عنه بإقبال كبير، وقد لخّص ذلك في بداية الدّراسة فقال: "قرأت هذا الكتاب دفعة واحدة لسببيْن: الأوّل لأنّه أوّل كتاب من نوعه يتحدّث عن الكيمياء كعلم ودور هذا العلم في حياة الانسان بشكل عامّ. والثّاني لأنّ قراءته كانت ممتعة بشكل خاصّ لما فيه من قصص وحكايات ومعلومات، لم أكن أعلم بها في هذا الموضوع وقد بتّ أومن أنّ موضوع علم الكيمياء قريب جدًّا من حياتنا العمليّة".

فواتح وعتبات:

بعض ما يغني هذه النّصوص الجميلة تلك الفواتح الّتي نقلها ووظّفها الكاتب كعتبات فكريّة ودلاليّة للدخول إلى البيوت العامرة باللّغة الرّقيقة والشّاعريّة أحيانًا وبالمضامين الوافرة ثناياها وزواياها بالمعلومات النّاضجة، لقد سمّى الكاتب "فتحي فوراني" في مقالته المذكورة سابقًا بِ "الفواتح الإبريقيّة" فهي كما قال: "تشكّل العتبات الأولى للنّصوص وما هي إلّا شواهد على ثقافة الرّجل. وتشي هذه "الفواتح" بملامح الآفاق الثّقافيّة الّتي يتمتّع بها صاحب "النّوتات" لاحتوائها على برقيّات ولقطات ونصوص واقتباسات وتناصّات من كافّة العصور الأدبيّة وعلى تشكيلة من الأسماء والرّموز جمعت الأدباء والشّعراء والعلماء والمفكّرين من كافّة الأجناس وعلى امتداد العصور". ولقد أصاب "فوراني" بذلك الاقتباس المنقول من مقالته كبد الصّواب. وقد أشار د. "بطرس دلّة" في مقالته السّابقة كذلك إلى هذه القضيّة حول تمتّع الكاتب بثقافة واسعة، فذكر: "والحقيقة الأخرى الّتي اكتشفتها من خلال قراءة هذه النّوتات هي أنّ لدى أستاذنا العالم "أشرف إبريق" مجموعة كبيرة واطّلاعًا واسعًا على الكثير من المعلومات جعلت الكتاب ذا قيمة كبيرة ككنز من المعلومات في شتّى المواضيع الأدبيّة والموسيقيّة والفنّيّة بشكل عامّ".                     

القطرة السّاكنة والمحيطات الهادرة:

لنترك الآن الكيمياء والأدب، هذا المزيج الجميل الّذي أعطى للقسميْن: الأوّل والثّاني قيمتهما الأدبيّة والعلميّة فتحقّقت عند القارئ كما أشرت من قبل المتعة والفائدة، وقد لخّص الكاتب العالم هذا المزيج فقال في كلمته الأخيرة: "رائعة هي الكتابة الأدبيّة . . . ورائعة هي الكتابة العلميّة" وعبّر عن سعادته تلك بكونه محظوظًا لأنّه امتلك القدرة على "التوفيق بين المجال العلميّ والأدبيّ"، وذكر في آخر كلمته الأخيرة: "وحده التّشابك والتّناغم بين العالم الأدبيّ الإنسانيّ والعلميّ الموضوعيّ كفيل بالمساهمة نحو مستقبل أكثر أمانًا وأفضل حالًا"، فالكيمياء هي تخصّص الأستاذ "إبريق" العلميّ، ومن الطّبيعيّ بعد جهاده وكدّه وإنجازاته ووصوله إلى هذه المرتبة من العلم، أن يكون عالمًا بكلّ تفاصيل التّفاصيل فيه، ولقد أتحفنا الأستاذ الكاتب في هذا المجال وغمرنا فاكتسبنا معرفة من خلالها صرنا أكثر خبرة بحياتنا وأجسادنا وأعضائنا وأرواحنا وأحاسيسنا وأخلاقنا وسلوكيّاتنا والطّبيعة الجميلة الّتي نتظلّل بخيراتها ومناظرها وتقلّباتها المتجدّدة وتداول فصولها وشهورها، حتّى صرنا نفقه أيضًا مركّبات طعامنا وشرابنا وملابسنا وألوانها وسائر أشيائنا وموادّنا من النّبات والجماد من السّائل والصّلب والغاز. ولو قست معرفتي العلميّة الكيميائيّة بمعرفته في ذات المجال لكنت قطرة ماء صغيرة لا تروي عصفورًا أمام محيطات العالم المترامية الأطراف الّتي وهبت للكون احتياجاته من الماء على مدى العصور السّابقة وستهبه على مدى اللّاحقة، فالحياة من الحيا، "وجعلنا من الماء كلّ شيء حيًّا". لنترك ذلك ولنتّجه إلى الحديث قليلًا عن الجانب الأدبيّ والعلميّ، لغة وأسلوبًا ومضمونًا بكونهما تجربة حياتيّة ومقدّمة ومنطلقًا يتطرّق فيه الكاتب إلى جانب هامّ في حياتنا وهو التّربية، كما بيّن في كتابه عامّة وفي قسمه الثّالث بشكل خاصّ.

الوفيّ للسّلف والمخلص للخلف:

التّربية مجموعة من التّجارب الحياتيّة الّتي تتعلّق بالجوانب الأخلاقيّة والسّلوكيّة والاجتماعيّة دون إغفال لتأثير النّواحي السّياسيّة والأحوال الاقتصاديّة وحتّى الجغرافيّة والإقليميّة والمناخيّة، هذه التّجارب تفضي إلى خلاصات ونتائج نتوخّى صحّتها، ولكن ليس بشكل ثابت ولا دائم بل بشكل متحرّك ومتغيّر على الأبناء والطّلّاب، كما قال الإمام "عليّ بن أبي طالب" في هذا الشّان: "لا تربّوا أولادكم كما ربّاكم أباؤكم، فإنّه خُلقوا لزمان غير زمانكم"، وثمّة من ينسب للفيلسوف اليونانيّ القديم "سقراط" قولًا مشابهًا: "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم"، وهناك من ينسبه كذلك إلى تلميذه الفيلسوف "أفلاطون". والحياة تنطوي على قيم ومهارات، فالقيم ثابتة كاحترام الكبير ورحمة الصّغير ولكنّ المهارات متغيّرة بتغيّر الزّمان المختلف والظّروف المستجدّة والأجيال المتعاقبة.

يعتقد الكاتب عل حدّ قوله في نصّ "برلين، مدام كوري وجميلات درويش" أنّ في مجتمعنا رغم السّلبيّات الّتي فيه ما يبعث على الأمل: "كون نسبة الطّالبات الجامعيّات في ازدياد مستمرّ" وفي هذا متغيّر تربويّ إيجابيّ  كبير، ووفقًا للكاتب فأنّ مسيرته الحياتيّة والعلميّة رغم ما اعترضها من تحدّيّات وصعوبات ووصوله إلى "لست بحاجة أن أثبت مكانتي الأكاديميّة ولا أسعى لأيّة ترقية بعد"، لم تكن هذه المسيرة مفروشة بورود النّجاح دائمًا بل تعرّض صاحبها إلى أشواك وانتكاسات كثيرة، ولكنّه جابهها بالمثابرة والإرادة والعزيمة.

وليس مستغربًا على هذا الرّجل العصاميّ رغم هذه الكبوات وبالمثابرة والعزم، بل من الطّبيعيّ أن يحقّق الإنجازات والنّجاحات والجوائز الكبرى ويصبح مربيًّا عظيمًا وقدوة وسلفًا لخلف من الطّلاب والأبناء كما كان هو نفسه خلفًا صالحًا لسلف من العلماء العظماء، وأبرزهم معلّمته الّتي غرست فيه حبّ الكيمياء منذ المرحلة الثّانويّة "فيرا داود صبّاغ" وصديقه في المراحل الأكاديميّة "إيهود كينان" الّذي وجد فيه الصّفات والمزايا المتفّرقة في كثير من الأشخاص، رآها قد اجتمعت في شخصه، أمّا طلّابه العلماء فقد ذكر نموذجيْن منهما: الطّالب العالم "محمّد جبارة" من مدينة "الطّيبة" والطّالبة العالمة "ميكال نواطحة" من قرية "الرّينة". وفي هذا المجال نتذكّر كتابًا رفيع المستوى للمفكّر المصريّ "سلامة موسى" لنتعرّف من خلاله على تجربة غنيّة، خلاصتها كيف تعلّم عظيم من عظماء سبقوه، إنّه كتاب "هؤلاء علّموني" الّذي تناول فيه المؤلّف حياة خمسة وعشرين مفكّرًا من عصور مختلفة وأشاد بمشاريعهم الفكريّة والعلميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة وما تعلّمه منهم من قدرة وصبر وعزيمة على تجاوز العقبات لتحقيق الأهداف العظيمة.   

تتجلّى كتاباته أيضًا عن كونه مربيًّا مخلصًا لطلّابه ولطلّاب المدارس الأخرى في القسم الثّالث من خلال الخواطر الّتي يتعرّض فيها لأجزاء من سيرته الذّاتيّة، كما كان مخلصًا وشغوفًا بالكيمياء، وكما كانت عماد كتابته الأدبيّة صارت كذلك عمادًا وأساسًا للتّربيّة ومفاهيمها وقيمها ومهاراتها الأخلاقيّة والاجتماعيّة الّتي يريد لطلّابه وغيرهم وخاصّة في مدارسنا ومجتمعنا العربيّ أن ينشأوا عليه "حبّ العِلم" والسّعي لنيله رغم كلّ العراقيل والمعيقات، ولعلّ ذلك الشّغف يتجلّى فيما قاله عن عنصر الكربون كنموذج للتّربية: "فحين تواجه أعظم الضّغوطات تذكّر عنصر الكربون، وكيف عند ضغطه بقوّة ينتج أجمل ما فيه الماس". ويقول: "ما عليك يا عزيزي الطّالب إلّا الصّمود، التّأقلم والاستمرار".

ومن أسس توجيهه التّربويّ لأجيالنا كلامه عن علاقاته المتينة والإنسانيّة مع عظماء العلماء العالميّين وأبرزهم العالم العربيّ المصريّ "أحمد زويل" الحائز على جائزة "نوبل" في الكيمياء، وكذلك في تحبيبه بالكتاب والقراءة باعتبار الكتاب أثمن هدية يقدّمها له أحد الأصدقاء، ولا يشعر المربّي الفاضل "أشرف إبريق" بالتّقصير إلّا عندما يكون أحد سبقه إلى قراءة كتاب ما. وقد تجلّت معالم أسس تربيته وبمباشرة تذكّرنا بأسلوب الوعظ في نصّه "الوصايا العشر" الّذي انتهجه الحكماء الأقدمون والأنبياء، فللملك البابليّ القديم "حمورابي" وصايا عشر وللنبيّ "موسى" وصايا عشر وللمرأة العربيّة العظيمة من زمن الجاهليّة "أُمامة بنت الحارث" وصايا عشر توصي بها ابنتها عند الزّواج".

وأخيرًا:

هذا العالم الكيميائيّ الكبير والكاتب الأديب والمربّي الفاضل هو ابن مجتمعنا العربيّ وابن ظروفه القرويّة الفلّاحيّة وابن مناخه الاجتماعيّ والثّقافيّ، يبدو لي رجلّا عاديًّا في حياته الشّخصيّة وبسيطًا محبًّا للطّعام الشّهيّ كالكبّة والمجدّرة وللعادات المألوفة في أعراسنا والسّهرات الشّعبيّة، ولأرضنا المعطاء سرّ وجودنا وللغتنا عماد وجودنا القوميّ وهويّتنا الوطنيّة، وللثّقافة والمعرفة والسّعي لهما ولو في الصّين، وميله إلى الفنّ الرّفيع في الموسيقى والسّينما والمسرح. هذا الرّجل يحبّ في البسطاء بساطتهم وفي العظماء عظمتهم وفي العلماء تواضعهم وإنجازاتهم الّتي قدّمت للإنسان شيئًا نافعًا، بهذه النّوتات المتآلفة في سلّمها قدّم وجبات من الفنّ الموسيقيّ الرّفيع ومن الأدب الجميل في اتّساق لغته وأسلوبه ومضمونه، من خلال هذه الوجبات اللّذيذة طعامًا وشرابًا وذوقًا أكلنا وشربنا وأقرّينا عيونًا عندما هززنا جذوعها وظلالها الوارفة، وأصبحت الكيمياء بفعلٍ عظيمٍ قدّمه عالمٌ عظيمٌ ركنًا أساسيًّا من أسس وجودنا وحياتنا، ولكنّ الأهمّ هو ما أحدثه فينا، فقد شكّل في كينونتنا وسيرورتنا وعيًا جديدًا لم نكن ندركه من قبل. فشكرًا!

وسأنهي مقالتي هذه بقول للكاتب يشكّل خلاصة رائعة لحياة الإنسان، أيّ إنسان: "نتوافق في أنّ السّعادة الحقيقيّة لا تأتينا من ألقابنا ونجاحاتنا المهنيّة بل بقدرتنا على تحويل حياتنا للحظات إنسانيّة يملؤها الفرح، الرّوحانيّات، الصّداقات حتّى لو كانت عابرة للقارّات وإلى مواقف ملؤها المحبّة والعطاء". فسلام عليك في الكتاب والمختبر، في الفنّ والعلم، وسلام عليك إذا قدت فريقًا علميًّا باحثًا عن الحقائق أو قدت أوركسترا فنيّة تبتغي سعادة الإنسان وتحريكه للأجود أو كنت باحثًا وحيدًا فريدًا أو فنّانًا في مسرحيديّة، ومع سلامنا عليك نطالبك بدوام إغنائنا بمزيد من مزيج مركّب من عناصر الأدب والعلم والفنّ تأتي على شكل نوتات كيميائيّة ماسيّة فنيّة مبدَعة بالضّغط الكبير على أزرار أكورديون عنصر الكربون.  




Copyright © elgzal.com 2011-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت