X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
فنجان ثقافة
اضف تعقيب
29/08/2021 - 03:44:51 pm
الشجرة الخالدة (من دفتر لاجئ في الوطن) بقلم: ناجي ظاهر

الشجرة الخالدة

(من دفتر لاجئ في الوطن)

بقلم: ناجي ظاهر

عندما ضربت النكبة ابي بيدها الحديدية الخالية من الحياة والروح، اضطر لمغادرة قريته سيرين الحبيبة الوادعة، مُكرهًا لا بطلًا، تصحبه والدتي وأخي الاكبر جوهر وأختي نجية وخالاي محمد وعوض، رحمهم الله جميعًا واطال في عمر اختي نجية وخالي عوض، ليتشردوا في طول البلاد وعرضِها وليستقر بهم المقام بالتالي في مدينة الناصرة، لأولد بعد سنوات، ولتولد فيها ايضًا اختي ليلى وبعدها بسنوات أخي الاصغر موفق او توفيق كما اعتدنا مناداته.

في تلك السنوات الغبراء السوداء، كان أبي في نحو الخمسين من عمره، وقد اراد حينها أن يستعيد عافيته المُولّية المُدمَّرة، فسافر إلى مدينة حيفا، ليضع رأسه هناك في قفة تراب، وليعود بعد نحو الثلاثة عقود إلى الناصرة ليفارقنا في رحلته الابدية الاخيرة.. بعد سفرة عمر قد تكون الاقسى لكثرة ما رافقها من الآلام والمعانيات.. رحل أبي قبل أربعة عقود ونيف، وها انا اشعر بها وكأنما هي أربع دقائق.. فيهزني الشوق إليه وإلى أيامه العذبة، رغم ما حفلت به من مر يوحي برائحة الحنظل.

فارقنا أبي رحمه الله، في صباح أحد الايام المغبرّة المصفرّة، بعد ان دعونا الدكتور عزيز سروجي طيّب الله ذكراه، لمعاينته كما افترضت الاعراف والعادات، تمنيت لو انه ينظر نحوي عبر نظارته الطبية العريقة ويقول لي وابتسامته المعروفة تبشرني بالأمل القائل بان أبي لم يرحل وأن كل ما حدث في ذلك الصباح، ما هو إلا مزحة ثقيلة اخرى ارسلها إلينا القدر في محاولة منه لامتحان صبرنا المتجدد وغير المتناهي، سوى أن ما حدث بالفعل كان غير ذلك.. وما زلت أرى رأي العين والمس لمس الروح، شفتي ذلك الطبيب القريب من قلبي.. وهو يقول لنا البقية في حياتكم.. العمر الطويل لكم.. يرحمه الله.

توجّهت بعد انتهاء حياة ابي ورحيله المؤسي، إلى مقبرة الناصرة وسألت حارسها عمّا يُطلب منا، نحن ابناء العائلة المهجّرة، أن نفعل، فردّ علي بعينين لمست فيهما أسىً شفافًا ومعنىً غامضًا، قال هذه المقبرة لأهل البلد، واقترح علي أن اتوجه إلى مقبرة" الغرباء"، لدفن أبي هناك.. توجّهت إلى تلك المقبرة، عيّنت موقعًا تحت شجرة صنوبر وارفة.. وهناك حفرنا في بطن الارض لندفن أبي بهدوء وصمت يليقان بلاجئ في الوطن. بعدها بعقود نافت على الثلاثة، دفنّا والدتي في نفس القبر على منى ان تلتقي الآمال الهاربة بين احب الناس إليّ واقربهم إلى قلبي وروحي.. امي وابي. أما اخي جوهر رحمه الله فقد تمّ دفنه بعد رحيله المبكر في مقبرة الناصرة الجديدة.

كان أبي يحلم ان يُدفن في ارض قريته سيرين، وقد عبّر عن هذا اكثر من مرة، واذكر انني رأيت عندما زرنا قريتنا بعد عام النكبة الثانية "نكبة 67"،.. رأيت في عينيه دمعة وسؤالًا.. دمعة لإحساسه انه لن يدفن، على الاغلب الاعم، في قريته العزيزة الغالية مسقط رأسه سيرين.. وسؤالًا مفاده: ترى هل سيضمني تراب قريتي بحنوٍّ كما ضم قدمي الحافيتين ايام كنت طفلّا صغيرًا؟

كثيرًا ما كان ابي ينقل الينا رغبته هذه مرفقةً بأحزان مَن عرف أن ما كسرته الايام من زجاج لن يعاد له سبك، وأذكر بكثير من الالم انه كان في لحظات شروده يُردّد كلمات.. يغنيها، هي:

"يا شجرةٍ في الدار حاميكِ اسد

وتخلّعت الغصون من كثر الحسد

زرعت الزرع.. واجى غيري حصد

يا حسرتي.. راح الزرع لغيرنا".

رحم الله أبي فقد رحل وبقيت شجرته شاهدة نابضة حيّة على انه كان هنا.




Copyright © elgzal.com 2011-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت