تواصل معنا عبر الفيسبوك | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
الاختزال الثقافي
مقاربات على هامش المؤتمر الثقافيّ الأول
سعيد نفّاع*
المؤتمر الثقافيّ الأول 11-12 تشرين الأول 2019 في عرّابة البطّوف، والذي عقده الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل 48، ترك انطباعًا إيجابيًّا حدّ النشوة لدى القيّمين عليه والمشاركين وبعض المراقبين، مضمونًا ومشاركة وإدارة، وهذا صحيح وقد فاق التوقّعات.
الأمر الطبيعي ان المؤتمر لاقى كذلك انتقادات، بعضها ذاتويّة تمحورت بالأساس حول: "لماذا هذا وليس ذاك؟!" أو "المؤتمرات ليس بكرنفاليّتها وإنّما برؤاها!" وما إلى ذلك، ومن نافل القول أنّ بعض الانتقادات كانت موضوعيّة، وهذه وتلك وبغض النظر دليل إضافيّ على النجاح. الأهم أنّ هذا النجاح لم يعمِ أنظار القيّمين عن نقاط ضعف رافقته، كان بعضها موضوع التلخيص في الأمانة العامّة للاتحاد ولجانه بعد المؤتمر بوقت قصير، تمّ طرحُها والتداول بها استخلاصًا للعِبر وانطلاقا من أنّ النيّة والقرار مُتجهان نحو تجذير هذا العمل ليصير تقليدًا لا غنىً عنه ويجب أن يكون حصينًا في وجه الزلّات قدر الإمكان.
ولعلّ إحدى النقاط البارزة في هذا السياق، سياق النقد والذاتي قبل الأخروي، كانت ضعف محور النقاش. لقد خُصّص وقت أكثر من كافٍ لنقاش كلّ محاضرٍ حول أطروحته لم يُستثمر إلّا جزئيّا، وبملاحظات أو مداخلات قصيرة على الغالب، وبعضها لم يرتقِ إلى مستوى الأطروحات والمتوخّى من منصّة النقاش.
في جلسة جمعتني في رام الله، وكثيرًا قبل المؤتمر، بكاتبين لهما بصمات زاهية وهامّة على حراكنا وحركتنا الثقافيّين شعرًا ونثرًا، جلسة كان لمسيرتنا الأدبيّة فيها حظٌ وافر، فاجأني في حمأة تبادل الحديث قول أحدهم وموافقة الآخر معه، إذ قال بما معناه: "لقد اختزلوا الثقافة الفلسطينيّة بمحمود درويش"، هكذا قيل وتمّت المصادقة دون التوقّف كثيرًا عند الموضوع، وأخذ الحديث مجراه في شؤون أخرى. الحقّ أنّي لم أتداخل في هذا الباب من النقاش بينهما ولكنّي أنصتّ إليه بتؤدة واهتمام، وللحقيقة لم يسألاني رأيي في هذا الادعاء، وهم لم يفصحا عمّن هم هؤلاء الذين "اختزلوا" وأنا لم أسأل، لكنّي أجافي الحقيقة إن قلت أنّ الأمر مرّ على عقلي مرّ الكرام حينها وبعدها واليوم.
ليس سرّا أبدا أنّ كلامًا مشابهًا في المبدأ بغضّ النظر عن دقّة الادعاء من عدمها وعن الاسم أو الأسماء "المُختزِلة" حسبه، يتمّ طرحه في الكثير من "القعدات"، وتقرأُه أحيانًا بين السطور هنا وهناك كلامًا مُشفّرًا. لم أقرأ حتّى الآن ولم أسمع من تجرّأ على طرح هكذا كلام على الملأ كتابة أو قولًا، فنحن قوم نحبّ ونقدّس الأيقونات ونرهب الاقتراب منها لا بل وندمغ كل من يحاول الاقتراب منها حتّى لو كان ممّن لا تشوب حبّهم لها شائبة.
فاجأني وربّما فاجأ آخرين، وعلى هامش الجلسة الختاميّة لمؤتمرنا طلب أحد أعضاء الاتّحاد البارزين (كاتب وشاعر)، حقّ الكلام وإن بخروج كلّي عن البرنامج التنظيميّ إذ إن طلبه جاء مقاطعًا التلخيص وقد "استفزّه" على ما بدا قولٌ في التلخيص. أُعطِي الحقّ رغم ذلك، وإذ به يطرح الأمر دون مواربة ومن خلال إشارة إلى الأطروحات التي قُدّمت وما قيل فيها في السياق من خلال التلخيص. هذا الطرح المفاجئ ولكن الصحيح أثار استغراب البعض لا بل والامتعاض عند بعض آخر، غير إنّه شجّع آخرين على ما يبدو، فتلاه عضو بارز آخر (شاعر) ليثني على كلامه، لا بل راح أبعد من ذلك.
كان ملخّص طرحهم في السؤال التساؤل: "هل ثقافتنا تقتصر على ومختزلة في (فلان وعلّان وعلتان)؟ فلم نسمع من المحاضرين إلّا أسماءهم وكأن لا وجود لغيرهم، ولا أدب بعد أدبهم، رغم إنّ الباحثون والنقّاد في الأجيال التي تلت كانوا سيجدون من لا يقلّ عنهم لا بل ويضاهيهم، لو كلّفوا أنفسهم قراءتهم!"
هذا الطّرح عمليّا هو الاختزال الذي تحدّث عنه ذانك الكاتبين في رام الله، وحريّ بنقاش مستفيض، وربّما نحن كاتّحاد بحاجة أن نطرحه في برنامج خاصّ، لأنه فعلًا يستأهل الغوص والعوم رغم الخطورة التي في السباحة وخصوصًا إذا كانت في بحر هائج. ولكن حتّى يتم لنا ذلك فلا ضير من وضع بعض شظايا أفكار على الطاولة، إجابة على السؤال: هل هذا ما هو حادثٌ؟ وإن كان، فلماذا يحدث؟!
الاختزال هو ليس فقط في الكلام كتابة ونطقًا، الاختزال هو تقليل تكافؤ ذرّات المادة بزيادة إلكترونات، وهذه العمليّة الكيميائيّة تؤكسد المادة وتقلّل من قيمتها كمًّا وكيفًا، تقلّل من تلك المأخوذ منها الإلكترونات وتلك المضافة إليها الإلكترونات، على ذمّة العلميّين. فهل هذا ما يحدث عند غالبيّة باحثينا ونقّادنا وهم انتقائيّون مختزِلون؟! لا قطعَ في هذا! ولكن، أليس في الإقلال من تكافؤ المادّة الثقافيّة، تقليلًا من مكانتها؟! قطعاً هو كذلك!
هنالك ادعاء عائمّ حول أزمة البحث والنّقد عندنا، ولكنّا نجافي الحقيقة إن قلنا أنّ باحثينا الذين ظهروا في المؤتمر والذين لم يظهروا، ونقّادنا الذين ظهروا والذين لم يظهروا، لا يبذلون جهدًا مباركًا بحثًا ونقدًا وفي حقل شائك. لا يستطيعنّ أحد أن يتّهمني إنّي أجامل في ذلك، فمن يتابع مقالاتي في هذا الشأن يرى إنّي لا أفعل. باحثونا ونقّادنا ليسوا كاملي الصّفات وغير معصومين وتماما كما منتجينا، ومن لم يكن ذا خطيئة فليرجمهم. الطامّة تكون إذا كانت انتقائيّتهم نابعة من عدم براء من الهوى، ولا أحسب أنّ غالبيتهم كذلك.
مع هذا نستطيع أن نضع قائمة من الادعاءات لأسباب الاختزال، ولكنها قائمة مفتوحة وتظلّ منقوصة ولا تتوخّى الكمال، ومنها:
لا يستطيع أيّ كان أن يدّعي أنّ الادعاء حول الاختزال الآنف هو محض خيال، ولا يستطيع من الناحية الأخرى أحد من "ضحايا" الاختزال أن يدّعي "اطلاقيّة" ادعائه. وبين هذا وذاك يظلّ الاختزال الثقافي كالاختزال الكيميائي يقلّل من تكافؤ المادّة!
أوائل كانون الأول 2019
*الكاتب هو الأمين العام للاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين-الكرمل 48