X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
أدب وشعر
اضف تعقيب
12/02/2012 - 03:01:33 pm
ضحك على ذقون القتلة - للشّاعر طه محمّد علي بقلم د. حبيب بولس
موقع الغزال

بداية أقول :خسرت الحركة الثقافية والادبية الفلسطينية برحيل أبي نزار- طه محمد علي- مثقّفا بارزا وشاعرا وأديبا متميّزا عرف بعصاميته وبتواضعه وباستقامته وبحبه للناس ولوطنه الصغير والكبير. وأبو نزارمنذ بداية إبداعه اختطّ له نهاجيّة خاصّة ميّزته عن الآخرين وبوّأته مركزا محترما بين شعرائنا وأدبائنا الفلسطينيين والعرب. كم كان بودّي أيّها الصديق الوفيّ أن أشارك في تشييع جثمانك، ولكنّ المرض حرمني فعذرا، وتعويضا عن التقصير القسريّ أنشر نصّ المحاضرة التي اشتركنا فيها سويّة في نادي الحزب الثقافي في كفرياسيف ، حيث تحدثت أنا عن ديوانك- ضحك على ذقون القتلة- وقرأت أنت عددا من قصائدك نالت إعجاب الجمهور ألهبت حماسهم. علّ كلام هذه المحاضرة يدفّئ برودة ضريحك وينير عتمته. الله أسأل أن يتغمدّك بواسع رحمته وأن يكلأك بوافر نعمته.  

حبيب

نصّ المحاضرة:

 

إلى هواة الصّيد

وشداة القنص!

لا تصوّبوا غداراتكم

إلى فرحي!

فهو لا يساوي ثمن الخرطوشة

(تبدّد باتّجاهه!)

فما ترونه

أنيقا وسريعا

كغزال

ويفرّ في كلّ اتّجاه

كديك حجل

ليس فرحا

صدّقوني:

فرحي،

لا علاقة له بالفرح.

 

هذا الفرح المغدور والمنقطع عن الفرح المألوف هو فرح طه محمد علي، فمنذ أن هدمت بلده صفّورية وصودرت أرضها صودر معها فرح طه، فكأنّ التّاريخ توقّف هناك. منذ ذلك الزّمن وفرح الشّاعر يقتل ويصادر ويعتقل، وفرح مقتول أو مصادر أو معتقل لا علاقة له فعلا بالفرح، بل هو أقرب في صلة الرّحم إلى الحزن منه إلى الفرح، وهذا فعلا ما سنجده عند الشّاعر.

والشّاعر طه محمد علي ليس شاعرا جديدا على ساحة أدبنا المحلّي، فقد عرفناه منذ الخمسينات شاعرا وكاتبا وناقدا ومثقّفا نشر القصائد والقصص والمقالات والنّقد في مختلف الصّحف المحليّة. أصدر لغاية الآن اكثر من ديوان شعرمنها "القصيدة الرّابعة" عام 1983، و " ضحك على ذقون القتلة" عام 1989. وهو في كلّ ما كتب كان يصدر عن حزن عميق وإحساس مرهف ورؤية واعية وتجربة طويلة، ذاق فيها المأساة وشرب مرارتها حتّى الثّمالة، فالتصقت به والتصق بها حتّى النّخاع، فصاروا مع الزّمن توأمين لا يفترقان، تقرأه فتنفلش المأساة أمامك بكلّ بشاعتها وملابساتها، تراها فإذا بوجه طه يطلّ عليك ضاجّا هادئا ساخرا جادّا، رافضا قانعا، حزينا فرحا، وهو بين هذه التّناقضات جميعا يتقن أصول اللّعبة الفنيّة جيّدا، فيشدّك حين ترخي، ويرخيك حين تشدّ، فإذا أنت أمام فن غريب يدهشك ويفجأك، يأخذ منك ويعطيك، يلامسك فيدغدغ حواسك فتنطلق معه حينا، وحينا تقف ممسكا رأسك بيديك سائلا ما كلّ هذه المرارة يا طه؟ وما كلّ هذا الحزن؟!

ولكن طه لا يحفل بتساؤلك ولا يهتّم فله هيكله وله صلاته يرتّلها على هواه، فامّا أن تقبل عليها فتطرب وأمّا أن تشيح عنها بوجهك فترحل

قصائده لا تحتاج إلى "فيزا" ولا إلى جواز سفر، تقرأها فتدخلك وتسكنك، فهي لا تقدّم لك نفسها بخلاعة راقصة ولا بمجون غانية وإنّما هي الرّصانة والوقار، لا تلوي عنقها ولا تستذلّ نفسها، لا تستجدي ولا تكدّ، أقبل عليها إن أطقت أو ارحل إن لم تطق، ولكن الحقيقة تقول، هي منك وإليك، عنك وفيك، لك وللغير، تتعرّى وتعرّيك معها لتجابها سويّة التّجابه ولتتحدّيا معا التّحدّي، ولتنغزلوا بالتّالي جميعا أنت وهي والشّاعر ونحن أكاليل غار تتوّج هامة هذا الوطن الّذي لا وطن لنا سواه ساعة نصره.

لو كنت أملك غابة- يقول طه-

لدنوت من نسر حزين

وناديته

يا أبت!

لو كنت أملك سجنا

لاقتربت من حائط شائكٍ

وهتفت به

يا سكني!

لو كنت أملك بحرا وسماءً

حقولا وأزهارا وعصافير

لصحت

لقد ظلمت حتّى اعتدت أن أظلم

لقد أرهبت حتّى أدمنت أن أرهب

وبعد أن ننتصر

ستمرّ دهور

وأنا أستيقظ في اللّيل

أهبّ كإعصار

أطوف الغابات والسّجون

أرقى القمم

وأصرخ

حتّى تتفجّر شرايين صوتي

أصرخ حتّى تتخلخل أركان معلاقي:

سننتصر، سننتصر، سننتصر

ص 17

من الحزن والألم والمعاناة إلى الحبّ والفرح والنّصر، رحلة طه الشّعريّة. والسّؤال الّذي ينطرح هل ينجح طه في رحلته الشّعريّة هذه. وكيف؟ 

" الفنّ عمليّة إنسانيّة فحواها أن ينقل إنسان للآخرين، واعيا، مستعملا إشارات خارجيّة معيّنة، الأحاسيس الّتي عاشها، فتنتقل عدواها إليهم أيضا فيعيشونها ويجرّبونها". هكذا عرّف تولستوي الفن بكلّ بساطة. فهل ينجح طه في نقل أحاسيسه ؟ وكيف؟.

قلنا في بداية الحديث إنّ لطه هيكله الخاص وصلاته الخاصّة. إذًا نحن لسنا أمام شاعر مبتدئ يناور حول فكرة أو يتأرجح بين مدرّج فنّي وآخر، أو يلهث وراء كلمة أو يستجدي لفظة. إنّما نحن أمام شاعر متميّز متمرّس عاقر الشّعر أربعين عاما أو يزيد، حتّى تجمّعت عجينة هذا الفنّ بيديه يكوّرها تارة ويفرشها أخرى فإذا هي قصائد تنفلت من اسار التقليد لتعلن فرادتها وتميّزها. وشعر طه يقع بمجمله ضمن إطار قصيدة النّثر، ومن هنا يجيء هذا التّفرّد وتنبع الطّرافة والحدائثيّة.

وقصيدة النّثر رغم جذورها الغريبة، إلاّ أنّها عند طه تستمزج الشّعر الغربي والشّعر العربي، فهي تراوح بينهما، فلا تفتقر إلى التّطريب ولكنّها لا تكرّسه هدفا كما الشّعر العربي عامّة، ولأنّها لا تكرّس التّطريب هدفا تتبوأر هذه القصائد حول الفكرة وتتمحور حول الصّورة، فقصيدة يقلّ فيها التّطريب الإيقاعي تستلزم، برأيي، فكرة عميقة يعبّر عنها بصورة موحية جميلة، فتصبح الفكرة لذلك لبّ هذه القصائد والصّورة لحاءها، وبقدر ما تكون الفكرة عميقة والصّورة موحية بقدر ما يأتي الإيقاع مموسقا، وحين نقول الإيقاع هنا لا نعني الإيقاع النّابع من التّفعيلة والوزن إنّما ذلك الإيقاع النّابع من النّبر. وهكذا إذًا فكرة وصورة وإيقاع نبري- أي المضمون والشّكل- متضافران لا انشطار بينهما، فالعلاقة الجدليّة تظلّ متواكبة متآلفة. وهذا فعلا ما نلمسه إلى حدّ بعيد في قصائد طه، فهي تسحبك حين تقرأها إلى عوالم رائعة أو كما تقول إميلي دكنسون: "إذا بدأت أقرأ وشعرت أنّ قمّة رأسي قد انتزعت فإنّني حينئذ أدرك أنّ ما أقرأه شعر".

وطالما أنّ الفكرة هي بؤرة هذه القصائد وعمادها فماذا نجد عند طه في قصائده؟.

إنّ أفكار القصائد- أي مضامينها- عند طه تنبع من العاديات ومن اليومي، وفي هذا الأمر تنسجم مع وظيفة الشّعر الحديث، وذلك لأنّ هذا الشّعر يتّصف " بألفة لا صنعة فيها ولا تكلّف، و ادراك لحقائق الحياة اليوميّة بصورة لم تكن معهودة من قبل". كما يقول "روزنتال".

وإذا نحن تتبّعنا شعر طه نجد أنّ مواضيعه مستمدّة من حياتنا اليوميّة ومن تجربته الفلسطينيّة، تخرج عن ذاته ترصد العاديات ولكنّها في نفس الوقت تحلّل وتنتقد وتستخلص النتائج، دافعها الحزن والألم والرّفض، ومصدرها تلك الرّعشة المأساويّة الّتي يحسّ بها الشّاعر ونحسّها معه فيتعمّق من جرّائها الألم في النّفس ولكن لنتطهّر معها في النّهاية.

وبقدر ما تكون مواضيعه ملتصقة بذاته منبثقة عنها بقدر ما تفارق الذّاتيّة لتعانق الرّحابة والشّموليّة ولتصبح القضيّة الخاصّة قضيّة عامّة- يحسّها الجميع فتلامس حواف المأساة فينا وأكثر، فحين نقرأ قصيدة عن معشوقته "صفّورية" من خلال تجربة خاصّة نشعر كم هي بالتّالية تجربة عامّة.

وهذه المواضيع رغم ما يبدو فيها من بساطة الفكرة نشعر بعمقها فهي لا تتشعّب أفقيّا وتتسطّح، بل نراها تغوص عاموديّا متسربلة بمسوح فلسفيّة يسحبها الشّاعر من ثقافته الغربيّة والعربيّة فتأتي هذه القصائد لذلك في مجملها مثقِّفة مثقَّفة في آن معا تمزج بين شكسبير وأليوت وادجار الن بو وعزرا باوند وكولردج  وييتس والمتنبّي والمعرّي وابن الرّومي وأدونيس ويوسف الخال وخليل حاوي وتوفيق الصّايغ وفي الاغلب محمد الماغوط وآخرين.

مواضيعها تلتقي مع مواضيع قصائد معظم شعرائنا لكن دون تغييب لخصوصيّتها، فهي في معظمها تدور حول الحنين إلى الماضي إلى ملاعب الصّبا إلى الدّفء- والماضي هنا هو فلسطين الممثّلة بصفّورية قرية الشّاعر- وهي نفور من الزّيف والحضارة الهجينة ومتناقضاتها وأصباغها وهذه مواضيع طرقها شعراء الغرب كثيرا، هي حلم ارتداد إلى الأصالة، وهي كذلك تتغنّى بالإنسان بعذاباته وطموحاته وبإنسانيّته، وترتّل للسّلام والحبّ والوداعة تعشق الأرض برحابتها وبطيرها وحيوانها وناسها، وهي كذلك حب للوطن بمعناه الرّحب وتركيز على الهُويّة والانتماء الفلسطيني والعربي.

ولكن ونحن في خضم هذا الحماس تجدر الملاحظة الّتي تقول: إنّ بعض القصائد في الدّيوان تعالج مواضيع تخرج عن دائرة اهتمامنا وتحلّق في جوّ الغرابة البعيد عنّا والقريب من القارئ الغربي وربّما كان السّبب في ذلك كثرة اطّلاع الشّاعر على الأدب الأوروبي.

ولنسمع الآن نماذج تمثّل حنين الشّاعر ومواضيعه المختلفة في قصائده حيث يقول مخاطبا صيّاده:

" يا رفيق العطش

والرّثاء للأرانب:

الّتي ذهبت بالسّذاجة

ولم تترك لمخلوقٍ

بياض قلب.!

أتوسّل إليك:

دعني "أتنزّه"

على مرمى العيار

من بندقيّتك

في هذه الحواكير المهجورة

وعند بقايا السّناسل.!

إسمح لي:

أن أسلّم على هذه التّينة.!

وأذن لي أن أقترب

من تلك الصّبرة.!"

ص11

وفي رائعته "ناقوس مرور الأربعين على تخريب قرية" يقول:

صفّورية!!

ماذا تفعلين هنا

في هذا اللّيل المجوسي

العاكف على ذاته

عكوف القلب على البغضاء!؟

وأين أقراطك!؟

أماشطة أنت

أم مشنقة!؟

إن كنت ملكة

فأين كوفيّتك وعقالك.؟

وإن كنت راقصة

أو عين ماء

فأين جواد شرحبيل!؟

ماذا صنعت بسيف صلاح الدّين

وأين وفود الظّاهر!؟

أين الجميع:

أين الظّلّ والرّمان والمشاعل

وأين السّاقية؟

أين قاسم والمعاصر والقسطل؟

وأين أعراس عناقيد التّبغ

الأشقر كالجدائل؟ ص19.

ولنصغِ إليه في قصيدة "كلام" حيث يقول:

أيّها الدّفتر الصّغير

 

الأصفر كسنبلهْ

 

والصّامتُ كوجهْ

 

أخشى عليك

 

من البلبل والقوارض

 

وأأتَمِنُكَ على خوفي

 

وحزني وأحلامي

 

ولا ألقى منك

 

سِوى العقوقِ والخيانَه

 

وإلا...

 

فأين الكلامُ

الذي أقولُ منه:

 

ليتَني صَخْرَهْ

 

على ربوهْ

 

لا تسمَع ولا ترى

 

لا تحزنُ ولا تتألم !؟

 

 

وأينَ المقطع

 

الذي فحواهْ

 

أتمنى أن أكون

 

صخرة على رابيهْ

 

يفَجِّرها الصِّبيةُ في الخليل

 

ويُهدونها إلى أطفالِ القُدْس

 

ذخيرةً للأكُفِّ والمقاليع !؟

ص40

 

 

 

 

* * *

(2-2)

*أهمّ ميّزة لشعر طه في رأيي هي صوره الموحية، وهذا الأمر كما أسلفنا يشكّل أساسا لقصيدة النّثر. وصور طه تعتمد التّشبيه المبتكر والاستعارة الطّريفة بلا ابتذال ولا تكرار فهي تخلو من المنفرات، تجيء هادئة منسجمة رغم جنوحها في الكثير إلى الصّور السّرياليّة الرّافضة العابثة والخارجة عن المألوف العادي*

 

 

وعن حبّه لانتمائه يقول بسخرية عابثة مرّة، في قصيدة " عن الحبّ والغدر"، بعد أن جرّب كلّ شيء وعاشر كلّ الشّعوب، يقول:

" لكنّني لم أحب أحدا

كما أحببت العرب!!

آه... لو كان للعرب جميعا

اورطي واحد

آه... لو كان للعرب جميعا

عنق واحد!

آه... لو أنّ لهم وريدا واحدا

كي أذبحهم وأستريح!!"  ص52

وعن عشقه لوطنه المتمثّل بصفّورية هاجسه الأبدي يقول في قصيدة " حبل صبحه"، عن البقرة الّتي بلعت حبلها فذبحت لذلك، ولكنّها أصبحت رمزا للوطن فلم يجرؤ أحد على أكل لحمها يقول محاورا زوجته:

"شايف يا أبو محمد

كانت بلدنا مليحة...

صحيح كانت فيها أوقات علقم

لكن مرارها طيّب

يشبه مرار العلت

وأطيب!

شايف...

شو كاينه بلدنا مليحة؟!

- مليحة؟!

............

ولك...!

وكتاب الله العزيز!

أنا مستعد وبفضل

ومن كلّ قلبي موافق

أكون يومها بلعت حبل

أطول من حبل صبحه

بس نكون

بقينا ببلدنا!!"    ص97

 وهكذا تسير مضامين القصائد عند طه ولا نستطيع الاقتباس منها أكثر لضيق المجال. والقارئ لهذه القصائد يحس أنّها ترشح مرارة وتنزّ سخرية ابتداءًا من العنوان " ضحك على ذقون القتلة" ومرورا "بالعرب" الذين يريد أن يذبحهم، وانتهاء ب- " بيان عبد الهادي" الساخر الموجع. وسخرية الشّاعر هنا عميقة تحدّد مأساته ومأساويّة مواضيعه، فهو ساخر إلى حد العبث، رافض للوضع إلى حدّ النّهلستيّة، ولكن بقدر ما هو نهلستي هنا بقدر ما هو ثائر على الوضع يطمح إلى تغييره وتثويره. فمحنته هنا هي محنة المثقّف الّذي يبدو للوهلة الأولى عاجزا ولكنّه يملك إرادة التّغيير.

وإذا انتقلنا للحديث عن الشّكل عند طه محمد علي، فإنّ أوّل ما يلفت نظرنا قضيّة التّكثيف، فالقصائد عنده مكثّفة ومضغوطة إلى حدّها الأقصى لدرجة يصعب معها الاقتباس، فهي تخلو من الثّرثرة والحشو والكلام الفائض، فالجمل على قدر المعاني، بحيث لا نجد جملة تلهث وراء معنى فتقصر دونه أو كلمة تخرج عن سياقها لتشكّل نشازا يضرّ بهارمونيّة القصيدة.

والشّاعر في مجمل قصائده يوظّف التّراث ويستمدّ منه، فالشّعر الحديث في أقوى دفقاته يعتمد على صلته بالتّقاليد وإنجازاته الجماليّة، فالتّقاليد هي أشبه ما تكون بلهيب متّصل، قد يبدو للمرء أنّه خبا بعض الوقت ولكنّه في الواقع يظلّ كامنا لا مفقودا.

وكما يقول "روزنتال": " ليس من الغريب أن نجد أكثر الشّعراء نشاطا في مجال الإبداع والتّجربة هم كذلك أكثرهم تأثّرا بصوت الماضي. إذ أنّنا لا نجد شعرا قديما له قيمته دون أن يكون له ما يمثّله اليوم". وطه يعي هذه القضيّة جيّدا لذلك يتّكئ في شعره على الفولكلور وعلى التّراث، فالشّعر عنده كالثّقافة هو عمليّة بعث وإحياء دائمين تتأكّد فيها الصّلة الوثيقة بين الماضي والحاضر.

وكما يوظّف الشّاعر التّراث نجده يتّكئ على التّرميز، ولكن رموزه تنبع كضرورة ولا تجيء ترفا شكليّا منبتا على النّص. وما يميّز هذه القصائد أيضا ذلك المذاق الكنسي النّابع من جوّ القصائد ومن جملها ومفرداتها.

 ورغم بساطة كلمات الشّاعر وتراكيب جمله يظلّ لهذه الكلمات والجمل مذاقها الخاص أو لم يؤكّد الشّاعر الكبير "ييتس" في عبارته المشهورة على هذه الخاصية- أي على البساطة- حيث يقول:

" لقد أردنا التّخلّص من المحسّنات اللّفظيّة، بل من الأسلوب الشّعري وحاولنا أن ننأى بأنفسنا عن كلّ ما فيه من صنعة وأن نحصل على أسلوب هو بالحديث أي بالكلام أشبه ولكنّه يفوق النّثر في بساطته، كالصّرخة تنبعث من القلب".

وهذا فعلا ينطبق على شعر طه فهو صرخة مغروفة من قلبه بلغة بسيطة لكنّها مؤثّثة بمفردات وتعابير جميلة موحية متناغمة لها إيقاعات لطيفة نابعة من النّبر رغم بعدها عن التّفعيلة، تسمعها فتحسّ باندغام إيقاعات "بيتهوفن" و "موزارت" و "شوبان" ولا غرابة في ذلك إذ لطالما أصغى الشّاعر لسمفونيّاتهم الخالدة.

ولعلّ ما يميّز هذه القصائد كونها مرويّة على شكل أحداث قصصيّة تبدأ ببدايات تكتنز عناصر إثارة تتفجّر مع إنطلاق القصيدة لتصدمنا في ذروتها ولتصبح بالتّالي في نهايات غير متوقّعة مفتوحة حينا وحينا مغلقة ولكنّها تحوي الكثير من التّفاؤل.

وأهمّ ميّزة لشعر طه في رأيي هي صوره الموحية، وهذا الأمر كما أسلفنا يشكّل أساسا لقصيدة النّثر. وصور طه تعتمد التّشبيه المبتكر والاستعارة الطّريفة بلا ابتذال ولا تكرار فهي تخلو من المنفرات، تجيء هادئة منسجمة رغم جنوحها في الكثير إلى الصّور السّرياليّة الرّافضة العابثة والخارجة عن المألوف العادي. والسّرياليّة عند طه تتعامل مع اللاّواقع ولكن لكي تلقي بنظرة جديدة على الواقع نفسه فتزيد بذلك معرفتنا به وتتوثّق به علاقاتنا. لأنّ الفنّ مهما حاول الدّخول في عالم ناءٍ من الأغراب واللاّواقع والخيال فإنّه لا يمكن أن ينفصل عن الحياة الأم لأنّها مصدر حياته.

وقد نجح طه في رؤيته لهذا الأمر لذلك جاءت صوره السّرياليّة لافتة للنّظر ولكن ما نأخذه هنا على هذه الصّور هو الاغراب في بعضها، وما ذلك إلاّ لمحاولته نقل بعض الصّور من الشّعر الأوروبي وهي صور لا تندغم مع شعرنا العربي.

وكي لا يظلّ حديثنا يدور في فراغ سندلّل على تشبيهات الشّاعر وعلى استعاراته المكوّنة لصوره من خلال قصائده:

لنسمع :"صفّورية! ماذا تفعلين هنا في هذا اللّيل المجوسي العاكف على ذاته عكوف القلب على البغضاء!؟". ص19 

ثمّ:" الماضي يغفو بجانبي، كما يغفو الرّنين بجانب جدّه الجرس. والمرارة تتبعني كما تتّبع الصّيصان، أمّها الدّجاجة".

 ثمّ:"أيّها الدّفتر الصّغير الأصفر كسنبلة  والصّامت كوجه." ص39

وفي قصيدة أخرى:"من قطرات فرح الأمس، ورذاذ سرور اليوم تتكوّن في غدنا أحيانا ينابيع حزن خبيثة! 

بعد أسابيع تتداعى فراخها، تلتقي في مسارب جانبيّة غامضة ورقيقة لتنساب جداول نحيفة تنحني وتتعرّج ككتابة الأطفال!  " ص58

و " افترض أنّني انطلقت منك فجأة انطلاق أسراب الصّدى من حقولنا وجماجمنا فما الّذي سيحدث؟؟" ص68  أو  " لن أسألك ما الغاية من جعلي هكذا  أنهار كالممالك وأتصدّع كجدران البراكين؟؟ 

لن أطلب إليك أن تفسّر لي هدفك من جعلني هكذا أتبدّد كالسّحب وأتساقط كملامح النّسور."   ص79

ولنسمع هذه الصّورة السّرياليّة الغريبة والمركّبة: "عنقه ينحني كقافلة النّمل بحثا عن كوّة في جدار ظلام اليوم لتهريب الخبر وصرير تهشّم عظام اللّحيين".   ص104

ولنسمع أيضا هذه الصّورة القمّة:  " في طفولتي يا حزن رأيت عصفورا تطارده أفعى كان قعيدا خلفه السّرب، والخوف الّذي شاهدته يتفجّر في عينيه وهو يحاول الفرار لا يمكنني أن أنساه. غابات وأقمار وبحيرات، منافٍ وجداول ومروج لا يحدّها البصر كلّها كانت تتكدّس على عنقه وتنهار بسرعة البرق من شدّة الهلع. مذابح ومدن كانت تتجمّع في نظراته بسرعة مذهلة وهناك تحترق رعبا وتتناثر على ريشه وصوته وقدميه"       ص85.

هكذا إذًا تتدفّق صور الشّاعر مرتكزة على تشبيهات مبتكرة واستعارات طريفة لتتشكّل بالتّالي قصائد جميلة كأنّني بالشّاعر يؤمن مع "مكليش" في أن القصيدة: " أسلوب تستخدم فيه الكلمات كأصوات وكرموز، وهي لا تنفصل عن معناها. لذلك اقتضى بناء الكلمات كأصوات وكمعان لإثارة العاطفة بمعونة الصّور (في تزاوجها) والرّموز والاستعارات في إدراكها الحدسي. سرّ التّجانس في الأشياء غير المتجانسة كما يقول أرسطو".

وأخيرا أختتم كما ابتدأت بقصيدة " عبد الهادي يتصدّى للدّول العربيّة" حيث يقول الشّاعر فيها:   " من عبد الهادي في بيروت الغربية إلى عنوانكم أعلاه في الوطن الغائب! 

أمّا بعد: بعد الصّلاة والسّلام على خير الخلق سيّد الأنام أعلمكم! بأنّي غافلت الحكّام العرب وفجّرت البحّارة الأمريكان وطردتهم من لبنان! للبيان والتّدبّر حرّر ولجرّ الانتباه وقع.!"    ص115

وأنا بدوري أقول: إنّ كلّ ما قلته عن شعر طه كان هدفه جر الإنتباه والتّدبّر والتّلفّت.

آمل أن أكون قد وفّقت في رسم صورة صحيحة لشعر طه.

 

 

 

 

 

 

 

 

د. حبيب بولس- [email protected]




Copyright © elgzal.com 2011-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت