X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
أدب وشعر
اضف تعقيب
07/09/2014 - 06:24:22 pm
"حيفا ... بُرقة : البحث عن الجذور"
بقلم : سوزان مسعود*

عندما انتهيت من قراءة  كتاب "حيفا ... بُرقة: البحث عن الجذور" (دار الفارابي ودار راية  2013) للكاتب الفلسطيني د. سميح مسعود وجدتني وجهاً لوجه مع جذور لي لم أذهب في أثر اقتفائها متعمدة إلا أنني طالما شعرت بغيابها عني ، وجدت هذه الجذور ليس فقط لأن الكاتب هو عمي، فهذا محض قرابة ـــ أعتز بها، او لأن والدي قد عاش في ظروف مشابهة لتلك التي يغطيها الكِتاب، بل لأن من هُم خارج رحم الوطن ( وأنا والكاتب منهم ) مُمَغنَطون للبحث عن الجذور وتَقَصّي أولئك الذين يبحثون عنها... في الغُربة، دوماً نبحث عن كسرة وطن، رمق ذكرى أو فتات جذرٍ.

 

يُشخص هذا الكتاب توهج رحلة بحث عن الجذور لكل من يعيش في الشتات ، وفي ظلمات الغربة والإغتراب ، يكشف فيه الكاتب عن وجد وهوى لجذوره تشع في أكثر من اتجاه ، ويَسعد بقراءة وتقصي تللك الجذور كل من يهمه الأمر من قريب أو بعيد...  لقد كتب الكثيرون عن هذا الكتاب ، و أريد في هذه العجالة أن أدلي بدلوي حوله.

 

أفضل تصنيف لهذا الكتاب هو أنه "رواية تسجيلية" وذلك لأن الكاتب يسرد أموراً من حياته تتصل بمفاصل حيوية وهامة في تعريف المكان/ الوطن بانتقائية الفنان الذي يريد أن يقول ولا يقول ،  ليجمع للمتلقي نصاً شديد التركيز حول ما يعنيه بحثه عن الجذور.

 

أكثرما أعجبني في هذا الكتاب هو ازدواجية الخاصية الروائية والتسجيلية للسرد، والتي وضعتني هناك جنبا إلى جنب مع الراوي / الطفل في أزقة حيفا مسقط رأسه ، حتى شعرت أنني ولدت فيها أيضا ، ودمعت عيناي عند لحظة النزوح منها ... حتى وإن كان النزوح عودة إلى قرية بُرقة مسقط رأس أهله وجدوده .

 

لقد تمثل أمامي سقوط حيفا كرمز لسقوط العديد من مكونات المكان الجميلة التي سلط الكاتب الضوء عليها في الصفحات الأولى من الكتاب ، بكل واقعية وحيوية طفل يحكي حياته ما قبل النكبة ، ولا أغفل القول أن جزء من هذه الخاصية هو سلاسة التنقل بين الطفل ذي العاشرة (وأقل) في مرحلة الصبا الباكر ، والشخص البالغ بعد عقود طويلة.

 

النصوص الشعرية الخاصة بالكاتب وبغيره ، والتي ُطعم بها النص في أماكنٍ مفصلية ، لها دلالات عميقة تعبرعن مكان وحيها ، وتضيف صورة لغوية رقيقة بين ثنايا النص ، وذلك كقوله على جبل الكرمل بعد زيارته له في لاحق العمر : "حيفا هنا إني هُنا البحر يجمع  بيننا واللوز والزيتونُ والقمرُ /حيفا هنا / إني هنا / آتي إليكِ اليومَ أعتمرُ / ... خمسون عاماً وهذا اليومَ أنتظرُ ... "

 

في نفس الوقت  ، أجاد الكاتب في توحيد النص بمفرداته وتراكيبه مع الواقع بأرضيته المكانية ذاتها ، وفي هذا الإتجاه  طاف بمنزل أهله في حيفا بكونه مكاناً محسوساً حقيقياً وقال كما ورد في الكتاب : "ها أنا أطوف حوله الآن، نعم طفت حوله سبعاً والأبواب موصدة، وغصة في القلب تُدميني." هذه الوحدة الفنية تنقل النص إلى ما يمكن أن يقع تحت "رواية نضج الفنان" (Bildungsroman/coming-of-age) كروايات جيمز جويس، حيث يفضي النص إلى سرد أمرين متصلين : قصته وقصة نضج الفنان الذي يكتب بلغة فنية (بالرغم من أنف الأحداث المريرة).

 

الأسماء العديدة التي ازدانت بها صفحات الكتاب ،أضافت رنيناً مريراً لتلك الواقعية؛ هؤلاء المشردين لهم أسماء ويأتون من شوارع "كان" لها أسماء عربية في حيفا ، وكانت لهم ذكريات يومية عادية مثل كل البشر: كانوا هنا وكانوا يأكلون ويشربون وينامون وينجبون في هذا المكان... لم يكن المكان خالياً قبل النكبة ، قبل تغيير أسماء شوارعه ، وتدمير طبيعته الأصلية العربية .

 

البعد الزمني في سائر تواصله مع المكان يزيد من جمالية المشاهد السردية ، يمنح العتبات النصية علامات دلالية متصلة بأهم سنوات عمر الكاتب ، وأهم مراحل القضية الفلسطينية إلى حد ما... والكتاب في هذا الجانب شديد التركيز حول سنة 1948سنة النكبة والهزيمة ، وذلك بالرغم من اتساع مدى ودقة التفاصيل والأسماء والأحداث ، وفيه أجزاء تتعلق بما هو قبل تلك السنة ،  وما هو راهن الآن ، وثمة محاولات في بعض أجزاء الكتاب للربط بطرائق شتى بين جميع هذه الأبعاد الزمنية.

 

يحتوي الكتاب على العديد من الإشارات إلى شخصيات ومراجع وأحداث موثقة تنمي لدى المتلقي / القارئ حب الاستطلاع لقراءة المزيدعن فلسطين والقضية الفلسطينية (مثلا أنا لدي رغبة لقراءة كتاب "بلادنا فلسطين" وكتاب "حماتي وشارون" وغيرهما). وتقوده أيضا إلى التعرف على الخلفية الاقتصادية والتنموية التي اتضحت في تعليقات الكاتب البناءة على الوضع الفلسطيني الحالي . كما تقود القارئ إلى التعرف على بعد تاريخي خصب في سياق النص يعكس الماضي ويدلل على انعكاساته في الواقع الحالي ، حيث يعتبر تكرار الخيبات والوعود والخذلان والصمت الرهيب في العالم العربي هالات دلالية من متلازمات العصر. وفي كل هذا، يواكب النص في مسالكه وحدة تتجلى بوضوح  بين عمومية المعلومة وخصوصية التفاصيل.

 

اللغة من حيث البناء والمعنى ، تنطوي على معطى جمالي لافت يكسبها دفقاً إبداعيا : أجدها بحد ذاتها تبحث عن جذورٍ أخرى للغة استخدمها الكتاب بمفردات غنية وصور بلاغية رائعة، توفرجمالية فائقة للغة هادئة بنبرة بعيدة عن التقعر .

 

أما على المستوى البنائي، فكل جزء من الكتاب يبدأ بمقدمة توضيحية مشوقة تُشرع أبواب النص ، وينتهي بخاتمة متقنة تعكس خلجات مكنونة في صدر المؤلف ، تكشف عما جرى في ما مضى ، أوتقدم رؤى لما هو آتٍ أحيانا بعد عقود من الزمن. وفي ما بينهما( الماضي والآتي) ثمة لغة سردية وصفية تدل على باعِ طويل في الكتابة بعدة ألوان من الأدب وغيره. يتوغل فيها الكاتب في وصف كل شيء حوله ، توقفت عند وصفه معصرة الزيتون حيث يقول : "سمعت صرير حب الزيتون وهو يسحق تحت حجري (درّاسة) طاحونة ثقيلة بإيقاع يُداني القلوب، يٌعجن من فرط السحق..." ويصف زجاجة زيت الزيتون برمز دلالي قائلاً : "  زجاجة زيت الزيتون تعبر عن دورة حياة أهلي الأبدية المترعة بنبض عنائهم من شظف العيش، وشدتهم على الثبات جذراً عميقاً في رحم الأرض".

 

البطل الحقيقي في هذا النص هو " المكان " ، الذي أضاعه العرب كما أضاعوا غيره عبر التاريخ . تضمن الكتاب وصف أمكنة كثيرة : حيفا وبُرقة على وجه الخصوص ، وغيرهما من القرى والمدن الفلسطينية كما كانت من قبل ، وبين تفاصيل الحياة اليومية فيها ، قدمها الكاتب بحمولات لفظية بالغة في الجمال والدقة ، ومدعمة بمعلومات تاريخية وخاصة عن أمور قد تغيرت وما عادت كما كانت من قبل ، حاول في تركيبات كثيرة من الكتاب إرجاعها إلى واقعها الحقيقي ، وها هو في جزء من الكتاب يقول  : "وحين أعود بذاكرتي إلى الوراء ... في مسقط رأسي حيفا حين كنت صغيراً فيها كانت السماء أكثر زرقة متوجة بتصاوير الكواكب، وكانت الرمال الممتدة على الشاطئ، وأمواج البحر، وحتى زخات المطر، ولطمات عصف الرياح، ليست ما لدينا الآن".

 

من جبل الكرمل تعرف الطفل الصغير والكاتب البالغ على الفسيفساء الدينية والثقافية والحضارية التي تشكل حيفا (وامتداداً فلسطين ) ومن شارع الناصرة تعرف على كل حيفا ، أعاد وصفها في كتابه بكلمات جميلة ، وعاطفة حارة مندفعة ، إستطاع بها تصويرها كجنة واضحة ومنظورة على الأرض .

 

كلنا في الشتات نبحث عن "نصٍّ شُمولي" "mega or macro text" يحكي كل شيءٍ عن  الوطن وعن لوعة الغربة وقهر الغياب عن الوطن . للأسف ليس لهذا النص من وجود. ولكن ما دلني عليه الكتاب موضوع البحث هو التشجيع على محاولة تجميع "نصوص فردية"  "individual or micro texts"  لإضافتها إلى الذاكرة الجمعية الفلسطينية ... قبل وخلال وبعد الشتات كما عبر الكاتب عنه في أكثر من موقع قائلاُ : "ولا يزال أمام الرواة الكثير لتدوين كل ما في صدورهم ... من أجل الخروج برواية تاريخية جماعية كاملة لما حدث قبل وخلال وبعد 1948".

 

بهذا يمكن خلط الماضي بواقع النكبة المعيش ، و يمكن للأجيال المتعاقبة التعرف على فلسطين  ما قبل النكبة والعيش في زمانين ومكانين مختلفين ... وهذا ما توصل اليه والد المؤلف " عاش في زمانين ومكانين مختلفين في كل شيء لا ينفصلان ولا يستطيع الخروج من أحدهما، واستطاع بهذا أن يعيد الهدوء إلى داخله من جديد". وهذا هو واقع كل فلسطيني في منافي الشتات ، يعيش في زمانين ومكانين مختلفين  !! 

 

  

* 

طالبة دكتوراة في دراسات الاتصال والثقافة - جامعة كالجري ، كندا




Copyright © elgzal.com 2011-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت