تواصل معنا عبر الفيسبوك | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
هل من مرجعيّة وطنيّة للّعبة المحليّة؟
ألقت
الانتخابات المحليّة بظلالها على المشهد السياسي لدى الجماهير العربيّة في الأشهر
القليلة الفائتة، وما من شك أنها ليست بالمسألة التي تبدأ مع الحملة الانتخابية،
والمؤكد أنها لا تنتهي بانتهائها بل تصاحبنا حتى الانتخابات المقبلة. فها نحن
اليوم شهورا بعد انقضائها وبعد أن وضعت أوزارها ما زلنا نعيش إسقاطاتها، نؤثر
ونتأثر بها، فثمة بلدات ما زالت تلبس أجواء الانتخابات المخيّمة عليها، وإن كان
بحلّة مختلفة، وما يحدث اليوم في الكثير من البلدات مثالٌ صارخٌ على ذلك.
كثرت
التحليلات حول نتائج الانتخابات، وكثر الحديث وإياها عن دور "المثقفين"
والأكاديميين فيها، وعن الائتلافات البلديّة وتركيبة اللجنة القطرية القادمة، وما
إلى ذلك، إلاّ أن قليلا منها تطرّق لمشروع الحركة الوطنيّة أو المشروع الذي يجب
عليها بلورته في الانتخابات المحليّة ودورها الأساسي فيها.
تختلف
الانتخابات المحليّة عن غيرها، كالبرلمانيّة مثلا، في تحويل التنافس المباشر إلى
داخل المجتمع في البلد أو القريّة بكل ما يحمله من صدام مباشر مع كل أنواع الآفات المجتمعيّة
كالعصبيّة العائليّة والطائفيّة والحاراتيّة، وشتى دوائر الانتماء الرجعيّة، التي
تحدّ من تطورنا كمجتمع وجماعة تصهر هذه الانتماءات العضويّة في انتماء سياسيّ
جامع، كما أنها تختلف بمدى انشغال المجتمع بها فتصل نسبة التصويت فيها الى أكثر من
80% وحتى 90% لاتصالها المباشر واليومي مع هموم الناس الحياتيّة، ولحضور
الانتماءات العضويّة، آنفة الذكر، وبقوّة.
وفي
غمار المشهد ترى بعض السياسيين والمثقفين يدعون لمقاطعتها كونها "المستنقع
الملوّث" الذي على الحركة الوطنيّة "النقيّة" النأي بنفسها عنه
وتركه للمحليّين، وتتقاطع في هذا رؤيتهم مع القوائم المحليّة العائلية التي تدعو
الأحزاب للاهتمام بالشأن السياسي العام والقطري، وترك الساحة المحليّة لمن
"يجيدها"، وهنا تكمن الخطورة الهدامة إن تحوّلت هذه المقولة الى نهج
ورؤية.
فالشجاعة
لا تكمن في الهروب من المعارك الصعبة التي تتصل بشكل مباشر مع هموم الناس وان كانت
تحمل ما تحمله من تناقضات وتحديات ولا يمكن لحركة وطنيّة تحمل مشروعا للتغيير أن
تنأى بنفسها عنها، بل عليها أن تخوض غمارها بغيّة فرض خطابها السياسي والاجتماعي
فيها. ولا يمكن لذلك أن يتأتى دون تشخيص الواقع المركّب ومسبباته لا الترفّع عنه
أو تكريسه، وهنا لا بد من العودة قليلا الى التاريخ.
العائليّة حاضرة وإن اختلف دورها الاجتماعي
لا
تنحصر آثار النكبة الفلسطينيّة في بعدها السياسيّ فحسب، فهدم المدينة الفلسطينيّة
من جهة، وتهجير غالبيّة الطبقة الوسطى الفلسطينيّة من جهة أخرى قضى على سيرورة
التحديث المجتمعي والثقافي والسياسي التي كانت المدينة أبرز سماته، وأدى تقويضها
إلى الحيلولة دون استمراره، خاصة في ظل غياب التنظيم السياسي بعيد النكبة،
باستثناء وجود الحزب الشيوعي. وساهم الحكم العسكري في إعاقة الالتقاء بالبلدات
الأخرى، ومع طبيعة المجتمع الريفيّ الذي بقي بعد النكبة كانت العائلة أو القبيلة
التكوين الاجتماعي الأبرز في القرية، والذي يحدد السلوك الانتخابي. وكرّس ذلك
تعامل المؤسسة مع الانتخابات المحليّة كأداة للسيطرة وتقويض فرص التنميّة من خلال
ضمان التناحر على أساس العائلة والطائفة والتحالف مع وجهائها ومخاتيرها.
وحتى
بعد التحديث القسري للمجتمع ومصادرة معظم الأراضي، وازدياد شريحة المتعلمين
والمثقفين منذ أوائل السبعينيات، لم نتحوّل إلى مجتمع حداثي منتج ولم تُلغ
العصبيّة العائليّة فلم تنشأ طبقة وسطى واسعة بما تحمله الكلمة من معنى أو مدينة
فلسطينية بل تحولت القرى القائمة إلى قرى كبيرة، الا أن ذلك ساهم ومع قناعة
المؤسسة بهذه التغيّرات لتقويض دور الوجهاء التقليديّين فبت تشاهد العائلة تختار
الطبيب أو المهندس والأكاديمي لتمثيلها في الانتخابات المحليّة.
لقد
كانت المؤسسة وأذرعها واعية لخطورة اهتمام واندماج الأحزاب الوطنيّة في العمليّة
الانتخابيّة والعمل البلدي لما ستؤدي هذه المشاركة لتوسيع قاعدتها الشعبيّة
ونفوذها وذلك لاتصال العمل البلدي بقضايا الناس الحياتيّة، ونرى هذا الهاجس
والتخوّف في أكثر من وثيقة كوثيقة "كينغ" وسياسة رعنان كوهن، رئيس
الدائرة العربية لحزب العمل، في علامة اضافيّة على أهميّة مشاركة الأحزاب في العمل
المحلي.
وربما
كانت السنوات التي سبقت وعقبت يوم الأرض وما جرى حوله من نقاش في اللجنة القطرية
للسلطات المحلية مؤشرا على أهميّة تقوية نفوذ الأحزاب الوطنية في رئاسة السلطة
المحلية أو في دفع مقربّين منها ليكونوا في صفّها في هذه المعارك، وهذا بدوره يطرح
سؤال مركبا: كيف لهذا المشروع أن ينجح دون تجاوز الآفات المتخلفة للمجتمع والتي
تحدد السلوك الانتخابي لدى شرائح كبيرة، فبالرغم من ازدياد قوة الأحزاب في
الانتخابات المحلية في أواخر القرن الماضي إلا أن "الولاء" للعائلة
والطائفة ما زال حاضرا إلى اليوم.
التجمع وإستراتيجيات العمل البلدي
إن
الواقع، آنف الذكر، وان كان يكرّس لدى الشباب الوطني المسيّس إحباطا وشعورا بالعجز
يفضي في كثير من الحالات إلى هجر البلدة والقريّة، والنأي بالنفس عن "المعركة
المحليّة"، يشكل تحديا أساسيا للحركة الوطنيّة خاصة تلك التي تحمل مشروعا
سياسيا للتغيير والتأثير لا للتبشير المقتصر على العشرات، ويترتب على ذلك خوض
التناقض بغية تفكيكه لا الهروب منه إلى المكان الآمن والدافئ.
في
هذا السياق تكمن الحاجة الماسة "للتجمّع" في بلورة هذا المشروع الخاص
بالسلطات المحليّة كرؤية إستراتيجية للحركة الوطنيّة، وكمرجعيّة سياسيّة تشكّل
بوصلة للعمل البلدي المحلي، فلا يمكن لمشروع يقوم، فيما يقوم، على دمج القضايا
اليومية المحلية بالسياسية العامة والمدني بالقومي أن يكتمل دونها، الأمر الذي لم
يبلوره "التجمع" والحركة الوطنيّة إجمالا بالدرجة الكافيّة والمطلوبة.
وفي
العودة إلى بعض أدبيّات الحركة الوطنيّة، والتجمّع بالتحديد، في تناوله لمسألة
الانتخابات المحليّة يتطرّق د. عزمي بشارة في "الخطاب السياسي المبتور"
إلى مواجهة الحركة الوطنيّة للعائليّة، ويحذر في هذا السياق من فخّ تعامل الحركة
الوطنيّة مع الهويّة العائليّة أو الولاء لها باعتبارها خصما سياسيا مباشرا لها في
حين أن الصراع معها هو اجتماعي بمعظمه، وهنا يميّز د. بشارة بين الخصومة
الاجتماعية مع العائلة وبين الخصومة السياسية. فالصراع يكون سياسيا إذا ما تمّ
تسخير الهويّة العائليّة وترجمتها لسلوك سياسي مناقض يفضي مثلا إلى دعم الأحزاب
الصهيونيّة قطريا أو إلى التكتل بغية ضرب العائلات الأخرى أي في حال تم تسييس هذا
الانتماء.
مصيّدة
أخرى يحذّر منها د. بشارة في ذات الكتاب، وهو الموقف التنويري التبشيري في الترفّع
عن الواقع والتقوقع في حلقة ذكر وطنية بدلا من التعامل مع الواقع لمجابهته وتغييره
باستغلال دينامكيته الداخلية، كما وجب التحذير من الجهة الأخرى من فخّ اتباع
الواقعيّة التبريريّة أي التعامل مع الواقع من أجل تبريره وتبرير السلوك السياسي
الرجعيّ، وهو خطر يفوق الخطر الأول. فالمطلوب هو التعامل مع الواقع من أجل تغييره
لا لتكريسه بالسهل عادة.
لا
تكمن المشكلة في التعامل مع الواقع العائلي والطائفي وأخذه بعين الاعتبار في
المشروع الوطني لتغييره، وانما المشكلة أن تتحوّل عبارة "الواقعيّة" إلى
نهج سياسي يلوذ بأخطاء حامليه إليها دائما في التخلّي التام عن المبدأ، فلا يمكن،
مثلا، بأي حال من الأحوال الدفاع عن دعم مرشّح "عميل مافيويّ" باسم
الواقعيّة.
لا
شك أن عملية تحويل هذه الأسس والمعايير إلى فعل سياسي ومشروع تغيير حالة مركبة تحتاج
لدراسة عينيّة لخصوصيّة كل بلد وبلد، ولكنها تشكل منطلقات عامة وبوصلة عامة
للتعامل مع الحالات الخاصة، وإن كانت عملية الفصل بين الصراع الاجتماعي مع الهويّة
العائليّة والصراع السياسي معها ليس بالأمر السهل عمليّا، وربما كان هذا السبب
وراء عدم خوض التجمع للانتخابات المحليّة، حتى للعضويّة، في الكثير من البلدات
العربية التي تحتدم فيها الصراعات العائليّة وهذا خطأ استراتيجيّ كبير في تقديري.
إذا،
ليس من معادلة سحرية سياسية تنسحب على كل البلدات والقرى، وإن كانت الأولوية
والطموح يبقيا دائما لبناء تحالف وطني سياسي مستقل أو دفع مرشّح حزبي أمام الصراع
العائلي والطائفي حيثما سنح ذلك. ثمة اختلاف في استراتيجيات الحركة الوطنيّة في
البلدات المختلفة، وبناء عليها سيختلف السلوك التكتيكي والسياسي في القرى التي
يحتدم فيها الصراع العائلي على حساب الحزبيّة عن البلدات التي تشهد حراكا حزبيا
مكثفا. فمثلا في بلد تحكمها التركيبة العائليّة البحتة سيكون من الخطأ تكتيكيا
خوضها بقائمة عضويّة حزبيّة بحتة، بل ربما الأنجع اتّباع شكل "القوائم
الأهليّة الوطنيّة"، أي تشكيل قائمة أهليّة وطنيّة تضم، إلى جانب الحزبيّين،
أشخاصا يملكون الحد الأدنى من الثوابت الوطنيّة من عائلات متنوعّة بغية اختراق
العائليّة بصورة أنجع، شريطة فرض الخطاب السياسي الوطني عليها، وأن لا يذوب الحزب
فيها بل تنصهر هي فيه.
وفي
الانتخابات للرئاسة شأن آخر، وتختلف فيها الإستراتيجية كذلك، خاصة إذا كان هدف
تغيير الرئيس فيها مهمة إستراتيجية وطنيّة، كما كان في شفاعمرو مثلا، وربما كان
سلوك التجمع أو التحالف الوطني في شفاعمرو هو الترجمة الفعليّة، أو الأقرب، لما
أرمي إليه حيث أدرك التحالف حساسيّة وتركيبة المشهد الطائفيّ البغيض، وقام ببناء
تحالف وطنيّ ديمقراطي، وإن عجز التحالف عن ضم غير حزبيّين، وتحالف منذ عشر سنوات
مع مرشح يشهد الجميع استقامته المهنيّة الأخلاقيّة والوطنيّة. ولو دفع التحالف
بمشرّح حزبي حينها لما تحقق التغيير اليوم. وفي المقابل فقد عاد هذا الدعم عليها
بالفائدة في الانتخابات القطريّة فتجنّد كوادر المرشّح لدعمها ليس هذا فحسب بل بانتساب
الكثير منهم للحزب وللحركة الوطنيّة ولتوسعها قطريا ومحليا ( ربما كان من المفيد
التوسّع في الحالة الشفاعمرية لاحقا لأهميته).
لم
أدع ولا أدعي في هذا المقام حلّ الإشكاليات والتناقضات القائمة في الانتخابات
المحليّة، إنما هي دعوة جديّة لقراءة معمقة لهذه المسألة، وتسليط الضوء على بعض
الأمور التي عادة ما تغيب مع احتدام المشهد المحليّ وتعقيده.
ربما
يستقيم التحليل حين نعي أن بعض المسائل أحيانا تفتقر إلى المعادلات السحريّة لحلها
فتحضر عندها الممارسة المتراكمة والحراك المستمر وتطور سيرورته كمساهمة في نسج
المعادلات الصالحة لخصوصيّة العمل المحلي في كل بلدة، لكن ثمّة قيما عليا لن يكتب
لأي حركة تغيير مجتمعية النجاح إن تخلت عنها.
إن
الهروب من المعارك الصعبة انهزاميّة مدمرّة، والتشبث الحاد بالواقعية وتبرير
تخلّفها دون مشروع لتغييرها انتهازيّة مدمرّة، وبين هذه وتلك تتسّع المساحة وتضيق
وفقا لقوة المشروع الوطني وجذريّته وصدقه أمام نفسه وأمام جماهيره.