تواصل معنا عبر الفيسبوك | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
شيرين أبو عاقلة مزمور القدس الحزين
بقلم: سمير حاجّ
القدس مدينة الأسوار، والتلال السبع بتوصيف الروائيّ الفلسطينيّ جبرا إبراهيم جبرا ،بناسها الطيّبين وكروم زيتوناتها وصخورها وحجارتها السّوداء وجيعةٌ ، تعيش جُمعَةً حزينةً ، تلبس المسوح السوداء ، وتتّشح بصور شيرين التي أضحَتْ بغيابها القاسي والحارق موناليزا فلسطين .
راهبةُ الصحافة و صاحبةُ الصّوت المجلجل والصورة الجميلة الشّامخة ، تُقتَطَعُ زَيتونةً من حواكير القدس بلا ذنبٍ أو خطيئة .
أجراسُ القدسِ تُقرعُ حُزْنًا للرحيل الكاوي، وتستعيدُ صوت فيروز المُتَسرّب شُموخًا ، بين أزقتها وحاراتها العتيقة " مريت بالشوارع ... شوارع القدس العتيقة .. وعينيهن الحزينة ... من طاقة المدينة " حِدادًا على رحيل نجمةِ الصّحافة والإعلام المهنيّ الصّادق ، المُلتزم بالهمّ الفلسطينيّ والوجع الإنسانيّ .
القدسُ تبكي ابنتَها شيرينَ الإعلاميةَ الصادقةَ المميّزة ، المُراسلةَ الميدانية الرمزَ والهُويّة ، أيقونةَ الصّحافة والإعلام المُلتزم الراقيّ ، الباحثِ في العمقِ الفلسطينيّ التراجيديّ ، عن التفاصيل والهموم اليومية الصغيرة في حياة الناس خاصّةً في المخيّمات ، والتي سطَّرت أنصع وأرقى الصفحات في سِفْر الإعلام والصحافة المعاصرة.
نجمةُ القدس سَقَطَت في بثٍّ حيّ ومُباشر مُضرّجةً بالدماء ، برصاصة مُجرم ، وهي تؤدّي رسالتها الإعلامية بأمانةٍ وشفافيةٍ ، في مخيّم جنين أمام الكاميرا ، حاملةً بشموخٍ وتحدٍّ ، صوتَها الهادرَ وميكرفونها وهاتفها النقّال .
في البدء كانتِ الكلمةُ، هكذا آمنت شيرينُ ، التي نذرتْ حياتها للكلمة والصورة المعبّرة ، والتي هبطتْ بمحبةٍ وفرحٍ في قلوب وعقول مشاهديها ومستمعيها . شيرينُ امتطت صهوة جواد ٍ حرونٍ مُجازفٍ يُدعى الإعلامُ ، اجترحت منه رسالةً وهويةً الوَعِرَ والشائكَ - مُراسلةً ميدانيةً بين الحواجز ، في الحروبِ والمظاهرات والاقتحامات وكانت سبّاقةً في الوصول إلى قلب الحدث ،بين الطوق والحصار والحواجز والرصاص ، نقلَت بالصّوت والصورة الحقيقةَ التي يصعبُ الوصولُ إليها . نذرت حياتها فِداءً لهذه الرسالة السّامية لتُسمِعَ صوتَ شعبها السيزيفيّ المُعَذّب ، صوتَ مَن لا صوتَ لهُم في زمن موحِشٍ ، وضحّت بروحها في سبيل إسماع صوت وكلمة شعبها الفلسطينيّ ، في زمن الجريمة بلا عقاب .
صوتُها صحافيٌّ موضوعيٌّ بامتياز ، انسيابيٌ واضحُ اللغة وعميقُ المعنى ،بعيدٌ عن المرصّعات البلاغية والحشو الزائد .
أعطت درْسًا في امتلاك الفرد لمحبّة ملايين السامعين والمشاهدين ، بأسلوبها المهنيّ المميّز ،وصدقِ أقوالها ،واحترامها وإيمانها برسالتها الإعلامية الراقية .
شيرينُ هويّتها قلوبُ أبناء شعبها في أطرار الكون والقرى والمخيّمات الفلسطينية . حملتْ خارطةَ فلسطين وناسَها ، في صوتها العاصف الممهور بسمفونيتها العذبة -اسمها والقناة الفضائية التي تعمل فيها ، " كانت معكم شيرين أبو عاقلة من القدسِ المُحتلة –قناة الجزيرة " . وبغيابها الصّادم أعادتِ القدسَ إلى مركز الحدث، في خارطة العالم ، ورسمَت الصورة الأجمل لمدينتها وشعبها ووطنها المصلوب على خشبة الصليب .
مسيرتُها تاريخُ شعب ، ومدرسة في الإعلام الفلسطينيّ االمهنيّ الرّاقي ، وأرشيفٌ للتاريخ الفلسطينيّ المُعاصر بالصّوت والصورة ، وهي صورةٌ ساطعةٌ ومميّزةٌ ، للمرأة الفلسطينية الإعلامية الجريئة.
شيرينُ التي كانت تنقلُ الأحداثَ بالصّوت والصورة ، رحل صوتُها وأضحت صورةً جامدةً مُضمّخة بالأحمر .
أيّتها الرائيةُ المقدسيةُ ! يا مَن كَتَبْتِ وتماهيتِ يومًا مع المقولة ( في بعض الغياب حضورٌ أكبرُ ) ، حَدَسُكِ أصابَ ، فأصبحتِ حاضرةً أكبر ، في غيابك القسريّ الباكر ، رُغمَ حُرقة رحيلك الموجع .
اليوم سارَت شيرينُ بلا صوتٍ ، جُثمانًا مُسجًّى في نعشٍ ، مُحَمَّلًا على أكتاف مُحبّيها من أبناء شعبها ، في شوارع القدس العتيقة ، على غير عادتها ، بلا ميكرفون وبلا صوتٍ ، دون أن ترصدَ وتلتقطَ بالصّوت والصورة ، كما عوّدتنا ، جحافل الجنود المدججين بالسّلاح ، المُغتاظين حتى من موكب جنازتها المهيب وجموعِ مُودّعيها .
شيرينُ مزمورٌ فلسطينيٌ حزينٌ ، ستبقى بحياتها وموتها روايةً فلسطينيةً هامّة ، وسِفرًا جميلًا في تاريخ شعبها وذاكرته ، وصوتًا إعلاميًّا مميّزًا ، وشاهدًا ملكيًّا على الكلمة القتيلة .
القدسُ الحزينةُ ودّعتها بالورود والشموع ، والدموع والقُبُلات والأناشيد والرايات، ورسمَتها نجمةً مُضيئةً بجنازةٍ مهيبة استثنائية . إنّها كما كتبتْ ( في بعضِ الغياب حضورٌ أكبرُ ) ..لقد رَحَلْتِ بحضورٍ أكبرَ ، فَزِدْتِ الموتَ بهاءً وَحُزنًا .
طُوبى لمدينة القدس التي أنجبتكِ ، وَدَرَجتِ ومشيتِ في أزقتها وشوارعها وعِشتِ فيها ! وطوبى لثرى
القدس الذي احتضنَكِ أيقونَةً ، وامتزجَ وتعطّر برحيق نعشك !