X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
فنجان ثقافة
اضف تعقيب
29/09/2011 - 03:55:51 pm
الزمن الباقي" لإيليا سليمان - جسارة المخرج في الزمن الغائب
موقع الغزال

 

فجر يعقوب

// وحده ايليا سليمان صاحب الرواية الأكثر جدلا في السينما الفلسطينية الجديدة يعرف كيف يتجاوز الجدار باستخدام زانة القفز العالي في مشهد رفيع سيقيم في الذاكرة السينمائية العالمية طويلا

الزمن الذي كان حاضرا في فيلم ايليا سليمان هو زمن فلسطيني بامتياز. الزمن الباقي (الغائب) مخصص للسخرية من الذات  الذي يجيد  ايليا استخدامه بتفوق. علامات ترقيم هذا الزمن هي السلاح السري الجديد الذي يلجأ إليه مخرج (يد الهية ) من زوايا مغرقة في شعريتها، وهي مايمكن أن نطلق عليه فرص " المواربة الشعرية المهملة ". ربما تكون زوايا بسيطة وعادية ولا تدعي التعقيد في آلية سردها واستنطاقها، وهنا تتجلى الصعوبة في الامساك بأطرافها. وهذا مايجسر سليمان على فعله هنا .
ماذا لدينا في "الزمن الباقي "؟
السائق الاسرائيلي يضع حقيبة المسافر القادم إلى مطار اللد، وهو سيقود سيارته في اللحظة التي ستهب فيها عاصفة مطرية هوجاء. هكذا تفترض المقدمة السينمائية. عاصفة لم تتحدث عنها التوراة كما سيخبر السائق، مايدفعه للخوض في " ملاسنة " لغوية مع نفسه أقرب إلى الهذر منها إلى اللغة المفهومة، وهي تأخذ منحى يشق فيها الهذيان عصا الطاعة - بقوة السيناريو - تجعل منه غريبا بالكامل عن أرض ليست هي أرضه في نهاية المطاف. أرض لايعرف من أسرارها شيئا. حتى العاصفة المطرية الشديدة تبدو وكأنها غريبة عليه، وأن من يحركها في الواقع ليس إلا " شبح " ايليا سليمان المتكوم في المقعد الخلفي من السيارة، وهو هنا يظل على ملامحه الشبحية الخارجة من البعد البؤري للعدسة السينمائية من دون اكتراث بالمزاعم التوراتية التي تدفع السائق إلى التكلم مع صاحب له عبر جهاز الراديو بمايشبه الهلوسة، وافتراض أنه كائن فضائي يفرض عليه الشبح الأرضي قوانين اللعبة من دون أن ينبس ببنت شفة، وكأنه يريد الاتكاء على ذاكرته الشخصية، وربما ذاكرة أبيه ليقول رواية الحاضر الغائب مجتمعة فيه. ينجح الشبح بدفع السائق ليتوقف بذريعة العاصفة من دون أن يطلب إليه ذلك . والسائق يلتزم جانب الطريق ، ليس لأنه ضل طريقه وسطها ، بل لأن التوراة نفسها لم تحسم أمرها ، وبالتالي يصبح خط سير الرحلة أمر مشكوك فيه ، وماعليه  سوى الاستسلام للذة النوم كما سنراه في المشهد الأخير، لأن الفلسطيني هنا هو من سيتحكم بالأحداث، فلايعود طارئا عليها. هو من سيبدأ وسيقفل على الرحلة، وماعلى قائد الرحلة سوى الاستسلام للشبح وهو يجيء على روايته مفصلة عبر تواريخ محددة .
في اللحظات التي تلي العاصفة، سوف يذهب ايليا سليمان إلى مشاغله مع الزمن بمستوياته المتعددة، ويبدأ حكايته حين تهاجم العصابات الصهيونية بلدة فؤاد سليمان عام 1948، وسيكون على الأب أن يعيد من جديد صوغ الرواية كلها من وجهة نظر الحاضر الغائب. الابن الذي يورط أباه في الأحداث، سيفرض عليه أن يحاول انقاذ جريح مع قريب له. هذا الحدث سيغير من حياة الأب فؤاد ، فسيلقى القبض عليه، وسيقوم أحد العملاء الملثمين بالتدليل عليه بوصفه مقاوما وصانع أسلحة في ورشة خاصة به.
الأب والأم والأخت سيغادرون إلى عمان ، وسيلقى بفؤاد من فوق جدار عال بالقرب من كرم الزيتون، لكننا سنشاهده عبر قطع في الأحداث وقد تزوج، وأنجب الولد الذي سيكون عليه أن يتعلم في مدرسة اسرائيلية وينشد النشيد الاسرائيلي ويشتم أميركا الامبريالية في آن معا.
لايستعير ايليا ذاكرته الساخرة من غبطة العائلة التي كونها الأب فؤاد في غفلة عن قوانين الاحتلال وقد بقي له من بعد فعلته الجلوس في المقهى نفسه مع الصحاب، والسجائر ذاتها، ومرض الرئتين، وفحص الضغط يوميا بانتظام، وبالطبع هواية صيد السمك والاستماع إلى شتائم جاره السكير الذي يهدد على الدوام بحرق نفسه، وهما هوايتان توغلان في كشف جهل الآخر بالأرض التي يقيم عليها، فاغارة الدورية الاسرائيلية ثلاث مرات على الشاطىء نفسه وسؤال أفرادها عن " هويات " الصيادين الصديقين ( فؤاد وشبيه أبيه )، وعما اذا لم يكن هناك في الناصرة بحر لممارستهما هذه الهواية، أو سحر الهواية الذي يعصف بالزمن الزنخ وهو يفشل في الاطباق على المكان الذي يقيمان فيه، اذ يظهر الفلسطيني هنا متحكما به من خلال سخرية مرة لايطيقها الاسرائيلي. فهاهو الشاب الذي يتكلم بالهاتف النقال يراوغ سبطانة مدفع دبابة اسرائيلية تترصده في كل حركة من حركاته، حتى يكاد يتحول الأمر إلى لعبة، فما إن يتوقف الشاب متعمدا حتى يتوقف المدفع معه، فيما هو لايفعل شيئا أكثر من القاء كيس قمامة في الحاوية القريبة من بيته. بالمقابل سوف يترتب على الفلسطيني الذي يقصد باحة المدرسة وقد تحولت إلى معتقل اداري فيه أسرى فلسطينيون مدنيون أن يقف بطريقة ممسرحة ويعيد قراءة نشيد عبد الرحيم محمود. يذكرنا بـ  "سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى / فإما ممات يسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا " ، قبل أن يطلق النار على رأسه بطريقة فيها الكثير من القدرة على اغاظة الأعداء في مشهد مركب فيه الكثير من التأويلات النقدية لواقع أدبي بحاجة إلى اعادة فك وتركيب قد لاتستهوي الغرباء أبدا .
لن يتوقف ايليا سليمان في سرده سيرة الحاضر الغائب عند حدود التعليم ، فهو لايقصده في فيلمه، وهو لايريد أن يعلم أحدا أية أشياء تتعلق بالزمن أو الموروث الفلسطيني، فهنا الملل يطال أيضا الصحاب الثلاثة ، وهم قاعدون على مقهى يراقبون هذه الأشياء في تحولاتها الكبرى، فمن جندي جيش الانقاذ في متاهته، إلى الشاب الذي يمتهن الصفير في غدوه ورواحه من أمامهم، حتى يجيء اليوم الذي ينسى فيه أن يقوم بفعله هذا ، مايدعوهم لسؤاله عن " اشاراته"، فيفاجئهم بصفيره موسيقا انيو ميركوني من أحد أكثر أفلام سيرجيو ليوني شهرة في عالم السباغيتي ويسترن، وهي اشارات كثيرة تحمل أكثر من تفسير. ربما بعضها مرده إلى شغف ايليا كما هو واضح بالسينما الأميركية كضامن لايقاع فيلمه، فحتى اختياره لصالح البكري  (الأب فؤاد) يكشف عن ولع خفي ببعض ارث هذه السينما ، ففؤاد يحمل في قسمات وجهه تعبيرات بول نيومان وجيمس دين في تسريحة شعره، وبعض ملامح روبرت ريدفورد في شبابهم، فيما يذكر دخول ايليا سليمان ليلعب دوره في الفيلم بأسلوب باستر كيتون ، الكوميدي المتفجع بالعالم على طريقته، ربما على مصيره الشخصي، وربما على مصائر الآخرين الهالكين لامحالة. لكن مايلفت في الأداء هو ضياع بوصلة الاتجاه الذي يحدد سلوك البطل، وهذا أكثر مما هو متوقع، فباستر كيتون كوميدي من نوع خاص، كان يفتت الواقع من حوله ويرده إلى صرامة في التقاطيع وحدة في درجة الالتباس التي كان يثيرها في أفلامه عشرينيات القرن الماضي.
هنا يستعير ايليا سليمان بداهة الأسلوب، ويلجأ إلى صرامة موازية في الأداء بأكثر ما هو متوقع في كادرات هندسية متقنة أقل ما فيها أنها تكشف عن أبعاد عاطفية للأرواح المستخدمة في الفيلم، فالغناء يهيمن فيه، حتى الغراموفون الذي يسرقه الأعداء لايقدم لهم سوى أغنية (أنا قلبي دليلي) لليلى مراد. هم يسرقون كل شيء من حول الحاضر الغائب، فيما يقوم الشبح، وفي الخلف دائما بتعزيز خطوط روايته الرئيسية الساخرة درجة أن الضحية يمكنها أن تقيم احتفالاتها بطريقتها من دون أن يردعها مكبر الصوت بضرورة التزام البيوت بسبب من حظر التجوال، ويمكنها بالطبع أن تقتاد الجلاد الذي لايعرف طريقه، ووحده سليمان صاحب الرواية الأكثر جدلا في السينما الفلسطينية الجديدة يعرف كيف يتجاوز الجدار باستخدام زانة القفز العالي في مشهد رفيع سيقيم في الذاكرة السينمائية العالمية طويلا.
( الزمن الباقي )، زمن باق على سطح السليوليد لايفارق صرامة صاحبه في الأداء . لايعرف الحياد أو الملل ، وهو يتنقل على شاكلة منح عاطفية لاتحتاج إلى أذونات من أحد ، ففي الوقت الذي تستعد فيه اسرائيل للاحتفال بعيدها الستين ، تدير الأم ظهرها للألعاب النارية التي تطلق في الاحتفالات. يمكن للفلسطيني من دون سائر الخلق أن يدير ظهره، ويحرك قدمه طربا على وقع أغنية فيروزية بعد أن طال قعاده استجابة منه لحالة عاطفية فاقدة. يمكنه أن يدير ظهره أو يشيح بوجهه عن صورة يراد لها أن تكون في الخلف مبهرة، ويريد منها الشبح أن يعزز روايته الأصلية عن المكان، بما يتناقض مع الخرافة التوراتية التي لم تنجح في تبصر عاصفة قادمة إليه، عندها سيبدأ ايليا سليمان من جديد فيلمه وسينهيه عندها، عندما يختار السائق كما أسلفنا النوم ملجأ له قبل أن تفرزه الحالة السينمائية إلى تيه بغيض يجبره الفلسطيني على أن يحلم به. فما بين الزمن المركب الذي تنقل فيه سليمان ببراعة سوف يغلق على السائق وهو يغط في غيبوبته العميقة يبحث فيها عن بقايا حكاية توراتية مسمومة لم يكن ممكنا لها في يوم من الأيام أن تدعي معرفة بالأرض التي تنتشر عليها انتشار عاصفة هوجاء.
الشبح الفلسطيني المقيم في الخلفية خارج البعد البؤري المحيط للعدسة السينمائية، لايوضح صورته، لاينقيها، ومع ذلك شوائب الرواية واضحة ونقية وصافية تماما.

Copyright © elgzal.com 2011-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت