X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
فنجان ثقافة
اضف تعقيب
02/07/2023 - 04:38:35 am
الرجلان كتب:ناجي ظاهر

الرجلان

كتب:ناجي ظاهر

.. فعلًا هما الرجلان مع أل التعريف، وليس.. رجلين نكرتين.. بدونها. فقد ملآ مكانهما في كلّ مكان حلّا فيه، وبديا كأنهما نجمان نزلا من سمائهما المُنيرة العالية ليتخذا من مقعدين مميّزين مجلسًا لهما. وكنّا نأتي اليهما نحن الاصدقاء في الثمانينيات، فيرحّبان بنا، ويفيض كلٌّ منهما بما لديه من محبة للوطن، الاهل وكلّ ما هو إنساني ونبيل. كلّ شيء كان يثيرهما ويدفعهما حينًا إلى التحدّث وآخر إلى الصمت. كانا مسكونين بأحلام يراها بعضُنا بعيدة وعصيّة على التحقّق، وبعضنا يرى عكسها، أما هما فقد أرادا أن يكونا لنا قدوة ومثالًا في محبة الارض والوطن. فكان لهما ما أرادا. 
أحمد حبيب الله- أبو هشام ومحمد أبو حسين- أبو علي، الأول كان يسرى في أصباح الثمانينيات إلى مطعم الصداقة، كلٌ يأتي من بلدته، أبو هشام من عين ماهل المتربّعة على رؤوس شغاف جبل سيخ وذراه القِممية، وأبو علي من رُمّانة المسترخية في سهل البطوف حاضنة بطيخها وقثاءها، فيستقبلهما صاحب المطعم ومديره الرجل المثال الرائع مصطفى اسعيد وبيده فنجان قهوة عربي أصيل، يقدّمه لكلّ منهما بكلّ ما فاضت به نفسه من كرم وبكلّ ما جادت عليه عروبته من طيبة. أما عندما كان كلّ منهما يتخذ مجلسه المُطلّ على الشارع القريب من عين العذراء، فقد كانا، خاصة أبو علي، يبحثان عن صحيفة "الميثاق" الفلسطينية الوطنية، وكان أول ما يفعلانه هو أن ينظرا كلٌ بطريقته إلى الصفحة الاخيرة من الصحيفة ليمتّعا أعينهما بالتمعّن في رسمة ناجي العلي الجديدة، وليشحنا نفسيهما بأمل لا يخبو له اوار، ويريد أن يستمر بقوة الدفع رغم كلّ المنغّصات.. النكبات والهزائم.
تعرّفت على الرجل الأول أبي هشام قبل سنوات من تلك الفترة، في حانوته لبيع الملابس في مركز قريته عين ماهل، كان يفيض وطنية وناصريةً وكان يميّزه ذلك الحماس الذي يتصف به الانسان في شبابه ورغم أنه كان يكبرني بسنوات، ويلاوح عمره الخامسة والخمسين، على ما أتذكّر، فقد كان يتدفق املًا وأكاد اقول تسرعًا، وعندما سألته ذات لقاء لي به عن سبب تسرّعه هذا، غرس عينيه في عيني وقال: إن الوقت يمرّ بسرعة هائلة.. لا وقت لديّ للتروي، لقد تأنينا كثيرًا فماذا أفادنا تأنينا؟
في فترة تالية، أسس الاخوة من "ابناء البلد" صحيفة "الراية"، وانتدبوني كصديق صدوق لهم، للعمل فيها. يومها تدفّق هؤلاء الإخوان رجا اغبارية، عوض عبد الفتاح، سليمان أبو ارشيد، محمد كيال، عمر سعيد، المحاميان واكيم واكيم واخوه سليم واكيم.. إضافة إلى آخرين برز من بينهم العديدون، وهنا يصعب عليّ أن اتذكر الاسماء لكثرتها ولبعد الشقة عن تلك الفترة، فاعتذر لمن لم أذكر اسمه، وكان من بين هؤلاء الرجلان الفاضلان محبوبا المطعم الشعبي، أبو هشام وأبو علي، وقد بقينا في صحيفة "الراية" إلى أن أغلقتها السلطات الاسرائيلية بسبب ما حفلت به من كتابات وآراء سياسية تحرّرية، الامر الذي دفعهم للسعي إلى اصدار صحيفة "الميدان"، معتمدين على ترخيص لها كان الاخ الصحفي محمود أبو رجب قد حصل عليه. 
كانت مكاتب هذه الصحيفة تقوم في عمارة حسني الفاهوم، وكانت تعجّ بالزوّار اليوميين، في مقدمة هؤلاء رجلانا المحبان المحبوبان، أبو هشام وأبو علي، وعندما خطرت للإخوة في حركة أبناء البلد فكرة تأسيس جمعية تعنى بشؤون الاسرى السياسيين وأهاليهم (جمعية اصدقاء المعتقل والسجين)، وقع الاختيار على أبي هشام ليكون مديرها وموجّه دفتها. عَملُ أبي هشام في هذه الجمعية تواصل حتى أيامه الاخيرة في الحياة، وكان من نتائج عمله هذا، وقد رافقته متطوّعًا، أن أطلق المحيطون بنا، بمن فيهم الاسرى وأهاليهم لقب: "أبو الاسرى." 
الآن وأنا أعود إلى الماضي، يغمرني الحنين إلى أبي هشام، فأراه كيف يحوّل بيته في عين ماهل إلى مضافة مشرعة الابواب يستقبل فيها الوفود الوطنية الزائرة من شتى انحاء البلاد ومن الهضبة السورية المحتلة، مرحبًا فائضًا شهامة عروبة وكرمًا. وعندما تنتهي الزيارة يشيعهم بنظرات حافلة بالحلم والامل إلى أن يعتلوا سياراتهم لتحملهم وتعود بهم من حيث وفدوا. وليستعد أبو هشام بعدها للانطلاق إلى الناصرة، وكثيرًا ما كنت أتصوّره، كما كتبت عنه، يقف في أحد المرتفعات النصراوية، ليطلّ على المدينة شاعرًا أنه يمتلكها بعينيه وروحه، رغم أنه لا يمتلك فيها أصبعًا من الارض. 
بقي أبو هشام، يرافقه قريبه وبلدياته أبو سامي حينًا وانا كاتب هذه السطور حينًا آخر، يجمع التبرّعات من شتى المناطق الاماكن والناس الذين أحبوه ورحبوا به ليوزّعها على الاسرى وعائلاتهم، إلى أن جاءت المفاجأة القتّالة. لقد مات أبو هشام اثر حادث سيارة وقع له في شارع" الموفيل"، قرب بلدة كفر مندا. وكان لا بدّ أن نتوجّه جميعنا إلى بيته لمواساة أهله وأبناء أسرته، ولنكتشف بعدها أننا إنما توجّهنا إلى هناك لنواسي أنفسنا المكلومة. 
***
أما أبو علي فلا أتذكّر كيف تمّ تعرفنا عليه، فما إن التقينا به برفقة رفيق خندقه أبي هشام حتى راقت لنا أفكاره فسعدنا بمنطقه، وانتابنا شعورٌ باننا نعرفه منذ أزمان سحيقة بعيدة موغلة في البعد. وكان يلفت أنظارنا بكوفيته المسترخية على رأسه الاشيب وكتفيه، وبلهجته البطّوفية، نسبة إلى سهل البطوف، لا سيّما عندما لا يعجبه حماس صديق عمره أبي هشام، فينتهره قائلًا: أسكت يا ختيار. ويردف متوجّهًا إلى بقية الحاضرين خاصة الصديق العزيز، منصور طاطور مرافقنا ومُجالسنا الدائم، قائلًا: ماذا رسم ناجي العلي اليوم. فما كان من منصور إلا أن يشرع أمامه الصحيفة ليتجمّع الحاضرون وليستمعوا إلى أبي علي، وهو يُعلّق على هذه الرسمة أو تلك، وأذكر أنه كان مُعجبًا شديد الاعجاب برسمة تقول فيها فاطمة لزوجها وهي تنظر الى القمر قائلة إن قمر عين الحلوة هو الاجمل في العالم، فيردّ عليها زوجها المُهجّر قائلًا إن قمر فلسطين أحلى. وما زلت أتذكّر وهل أنسى؟.. يوم أرسل نظرة متمعّنة إلى مقاتل فلسطيني ممن اضطروا لمغادرة بيروت بعد حرب 82 وقد القى بنفسه من السفينة ليعوم عائدًا إلى بيروت وعلى لسانه كلمة: اشتقنالك يا بيروت. يومها رفع صوته هاتفًا بالجميع. هذا هو الفلسطيني.. لا يتنازل عن حقّه ويصرّ على انتزاعه.. في اللحظة والآن. وتابع يقول: يحيا البطن اللي جابك يا ناجي. قاصدًا ناجي العلي. 
حرص أبو علي طوال لقاءتنا تلك وأيامها الطيبة العذبة، على أن يتابع وسائل الاعلام الوطنية خاصة، عبر الصحافة المكتوبة والمسموعة وقد زرته في بيته الُرمّاني- نسبة إلى قريته رمانة- أكثر من مرّة، برفقة أبناء أسرتي الصغيرة، وكنت ما إن أدخل عليه في غرفته الكبيرة الفارهة، حتى يهرع إلى استقبالنا مخلفًا فرشته المنتظرة المسترخية وراءه ومرحّبًا بنا، وكان لا يلبث أن يكر عائدًا إلى قعدته العربية، ليتّخذ كلّ منّا نحن زواره مقعده العربي الاصيل، وليلفت نظرنا إلى ما تبثه إذاعة صوت القدس الوطنية التي كانت حينها في ذروة عطائها، لافتًا اهتمامنا إلى ما لفت اهتمامه من أغانٍ وطنية ومن شعارات رفعتها تلك الاذاعة في مقدمتها شعار: "بناء الانسان أولًا". 
كان أبو علي رغم مشاعره الوطنية الجيّاشة، وربما بسببها يفضّل الصمت على الكلام، وقد ردّد أمامي وأمام آخرين أكثر من مرة يقول إن العمل أهم من الكلام، واننا شبعنا كلامًا، وحان لنا أن نؤمن بأن العمل أولًا وقبل كل شيء. من أعمال أبي علي التي لمستها حينًا لمس العين وآخر استمعت إليها مِن آخرين أنه كان كريمًا معطاء يجوب البلاد طولًا وعرضًا ليعطي محتاجين الكثير من القليل الذي امتلكه، وكأنما هو يريد أن يُقدّم للآخرين درسًا في الوطنية والعطاء، وقد دفعني لأن أتذكر قصيدة للشاعر اليهودي اليهودي يهودا عميخاي قمت بترجمتها إلى العربية آنذاك، لا سيما عندما يقول فيها: ما قيمة الوطن إذا تركتك حبيبتك وحيدًا ولم يقف إلى جانبك أحد. ما قيمة الوطن إذا سقطت ولم تجد من يأخذ بيدك ويقيلك من عثرتك.
لقد مضى ذلك الرجل قبل سنوات في طريقه الابدي تاركًا أمانة وحلمًا كبيرين لدى كلّ مَن عرفه والتقى به في هذا المكان أو سواه من أمكنة بلادنا الحبيبة.. مضى بالضبط مثلما مضى صديقه ورفيق دربه النضالي أبو هشام، مضى الاثنان مخلّفين وراءهما ذكريات ودرسًا لا ينسى في الوطنية، الحبّ والتضحية، فليخلّد ذكراهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*من كتابي اجنحة الذاكرة. صدر مؤخرا.







Copyright © elgzal.com 2011-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت