يبحث كتاب «بئر الحداثة»، لمؤلفه سمير فوزي حاجّْ، في تجليات الحداثة الغربية، ضمن أعمال جبرا إبراهيم جبرا، الروائية والقصصية، وفق النظريات والتقنيات الروائية التي ظهرت في أوروبا بعد الحرب الأولى. فيكشف عن تعالق وتفاعل أعمال جبرا مع نصوص غربية، تمثَّلت في أعمال: جيمس جويس، هوميروس في الأوديسة، شكسبير في العاصفة. وذلك بتأثير رواية تيار الوعي. وعن استعانة نصوصه بالوسائل الفنية، المستقاة من الموسيقى والسينما والنحت والعمارة، التي شكَّلت هيكل المعمار الروائي لأعماله.
يُبين حاجّْ أن جبرا في روايتيه "السفينة" 1970 و"البحث عن وليد مسعود" 1978، ينجح في تقديم نموذجٍ طليعي ريادي لكتابة الرواية الموسيقية في الأدب العربي الحديث. ولكن الموسيقى الغربية في أعمال جبرا، تؤدي وظيفتين، الأولى كما يرى المؤلِّف تقنية. إذ تنبش الذاكرة في عملية استرجاعات. والثانية دلالية وتفسيرية للنص. إذ تسهم في كشف الثيمة التي يحملها النص.
كما أنَّ جبرا في رواية "السفينة "، يُكثر من ذكر أساطين الموسيقى الغربية وأسماء الأوبرات والأغنيات، للدلالة على الهوية الثقافية للفلسطيني المسيحي وديع عساف، بينما تشكل الموسيقى العربية هوية الشخصيات المسلمة، فلُمى في "السفينة"، ترقص على ألحان أم كلثوم، بينما يستمع عصام السلمان إلى لحن عراقي حزين. كما يوظِّف جبرا الموسيقى من خلال التناص بأنواعه المختلفة، خاصة التلميح والتهجين.
ومن ناحية استخدام الرموز في روايات جبرا إبراهيم جبرا، فيكتشف المؤلف تكثيف أعمال جبرا في الرموز المسيحية واستخدامه لها في سياقات اجتماعية وسياسية، بعد إفراغها من مضمونها الديني بهدف العولمة، وهي: الصخرة، البحر، الماء .. وغيرها. كما يبين حاجّْ أنَّ النصوص الروائية والقصصية لجبرا تُكثر من استعمال كلمتي البحر والصخرة. فالبحر وردَ في "السفينة" 150 مرة، والصخرة تكرَّرت في "السفينة" 74 مرة.
وفي" البحث عن وليد مسعود": 63 مرة. كما أنَّ "السفينة" استهلت بلفظة البحر، و"البحث عن وليد مسعود" اختتمت بها.. على أنَّ جبرا يُكثر أيضاً من الإحالات والإشارات في أعماله إلى السيد المسيح، من قبل الشخصيات المسيحية والمسلمة، تضرعاً وإنشاداً للخلاص الاجتماعي والسياسي. فوديع عساف في "السفينة"، يتعلَّق بالمسيح الذي صُلب وتعذَّب لخلاص البشرية، ...
كما أنَّ مأساة السيد المسيح المتجسِّدة بالصلب، ترمز إلى المأساة الفلسطينية التي ستبقى ماثلة ولن تندمل. أما في رواية "صيادون في شارع ضيق"، فيرمز السيد المسيح لدى جبرا إلى الشعب الفلسطيني المعذَّب، الذي يعيش في الخيام والمنافي. وهذا ما يتضح من كلام "جميل فران" لـ"الأب عيسى"، الذي يدل اسمه على السيد المسيح، كما تندمج الرموز المسيحية بالرموز الأسطورية.
فجميل فران يدمج بين المسيح وتموز، رمزاً لتضحيات الشعب الفلسطيني في سبيل خلاص القدس. فالاثنان يتشابهان في التضحية والفداء والخلاص والبعث، تلميحاً إلى بعث الشعب الفلسطيني في فلسطين. وفي رواية "البحث عن وليد مسعود" هناك تلميح إلى السنوات الثلاثين الأولى من حياة السيد المسيح غير المعروفة، وكذلك إلى السنوات الثلاث الأخيرة من حياته التي بشَّر فيها.
هذه الإحالة الدينية للسنوات الثلاثين يرمز فيها جبرا إلى السنوات التي سبقت نكبة 1948، أي من نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، إذ لا يعرف شيئاً عن ثورات شعبه الفلسطيني وتمرداته. كما يرمز المسيح إلى الثوار الفلسطينيين الذين سيغيرون كل شيء، التاريخ والعالم، وهذا ما يراه "وليد"، بطل الرواية.
المؤلف في سطور
سمير فوزي حاجّْ، باحث وناقد فلسطيني، يحمل شهادة الدكتوراه في المحاماة، صدر له: مرايا جبرا إبراهيم جبرا، يافا بيارة العطر والشعر.
الكتاب: بئر الحداثة
تأليف: سمير فوزي حاجّْ
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 2012
الصفحات: 300 صفحة