تواصل معنا عبر الفيسبوك | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
الغزال المرشد
قصة: ناجي ظاهر
ابتدأ كل شيء خلال تصفحي لصفحات الفيسبوك، كان ذلك عندما وقعت عيني على صورة فتاة جميلة سبحان من كون ومن صور، تحت الصورة قرات اسمها:
قمر سالم البيك
والى جانب الاسم عنوان خبر عن مهرجان سينمائي، يعرض في المدينة. استفزني الاسم والخبر، فأقبلت على الخبر لأقراه وأتأكد مما تداعى الى ذهني من افكار وذكريات. كل ما خطر لي كان صحيحا. اما سليم البيك فهو محام صديق جمعتني به الاجواء خلال عملي في صحيفة وطنية صافية، قبل اكثر من ثلاثين عاما. كان سالم البيك يومها محاميا صلب الموقف متماسك الراي، وكان اعزب في الثلاثين من عمره، عندما سالته لماذا هو لم يتزوج حتى الان، قال لي انه قرر ان يتزوج القضية، بالضبط مثلما فعل قائدها الاول، وعندما سالته لماذا اخترت مهنة المحاماة، رد علي بقصة تشبه الحكاية، مفادها انه من قرية عين غزال المهجرة وانه اراد منذ تفتح وعيه ان يكون ابنا بارا لأبيه الراحل، وسوف يعمل كل ما بوسعه للدفاع عن حق العودة، وعن كل من تعتقله السلطات او تسجنه بسبب آرائه السياسية.
بعد فترة وفد الينا البيك لزيارتنا كعادته، ولاحظنا انه برفقة صبية شابة ذكرتنا بظبية عاشت في اخيلتنا منذ ازمان بعيدة سحيقة.. موغلة في البعد، وبما ان البيك قرر في تلك الفترة ان يكتب زاوية صحفية يُعلّم فيها من يخرج عن خط الوطن درسا لا ينساه، عبر لسعة زقرطية فلسطينية شبعانة من ازهار بلادنا الحبيبة، فقد اتفقنا على اطلاق صفة النحلة على مرافقته التي تحولت في اللقاء زيارته الثانية ليقدمها لنا على انها خطيبته لقب النحلة، بعد سنة من تلك الايام، في الخامس عشر من ايار بالتحديد، ارتبط المحامي زقرط البيك بنحلته. وقد سالته في اول زيارة له بعد ارتباطه بنحلته عن سبب تغييره رايه في مسالة الزواج، فرد علي قائلا: لا رد.. ولا تعليق. تقبلت رايه باحترام كبير ولم اناقشه فيه، فقد كنت واثقا تمام الثقة انه انسان عاقل، وان حلمه بالعودة الى عين غزاله، ستبقى بوصلته الموجهة له في صحراء العرب، سواء ارتبط او لم يرتبط. وتمر الايام وتغلق السلطات صحيفتنا، لنتفرق كل في مكان، فتفرقنا السبل والمشاغل، وهاانذا اصطدم باسم كريمته قمر، ممثلة في فيلم سينمائي يعرض في مهرجان بإمكاني حضوره ومشاهدة ما يعرض فيه من افلام. ترى.. عماذا يتحدث فيلم قمر سالم البيك، ابنة الزقرط اللاسع.. والنحلة المعطاء؟ تساءلت، وانا اعرف انه لا جواب قبل مشاهدة الفيلم العتيد.
يوم الخميس في الساعة السابعة الا خمس دقائق، كنت انتظر قبالة مبنى السينماتيك وكنت ارسل نظرة آملة الى لافتة الاعلان المعلقة على واجهة المبنى، ضمن محاولة استجلاء بت بحاجة اليها، انا الانسان الحالم، رفيق والد ممثلتنا الشابة سالم البيك، الزقرط افندي. بما ان قراءة ما ضمته اللافتة، رغم ضخامتها، من صور وكتابات، لم يكن واضحا لي، ربما بسبب المرض والعمر المتقدم، كان لا بد من الاقتراب من تلك اللافتة لأمتع ناظري برؤية قمرنا، ولأقرأ اسم الفيلم التي ستمثل فيه. كان اسم الفيلم بالضبط كما توقعت:" عين غزال".
بينما انا مستغرق بين ماضٍ حافل بالذكريات والمحبة للأرض، عصافيرها، اشجارها واعشابها، شعرت ان الحركة ابتدأت تدب في كل مكان، وان الناس اخذوا يتوافدون زرافات ووحدانا، وما ان تلتف حولي لاستطلاع العابرين كعادتي، حتى وقع نظري على قمر وقد نزلت من سيارة فارهة يرافقها عدد من المشجعين المحبين، لمعت قمر كباقي الوشم في ظاهر اليد، واختفت في زحام المتجمهرين بانتظارها، حاولت ان الحق بها ان اقول لها كلمة تشجعها على المضي في طريقها الى قرية الآباء والاجداد، عين غزال، الا انها ما لبثت ان اختفت في الزحام، ودخلت الى دار العرض، لتكون ضيفة العرض، كما قرات قبل قليل. "سأحاول الاقتراب منها بعد العرض. سأحكي لها حكاية تلك الصحيفة، وقصة ذلك الزقرط العنيد وتلك النحلة المعطاء.. الرائعة". قلت لنفسي، ودخلت من بوابة السينماتيك.
عندما اتخذت مقعدي المفضل حين حضوري الافلام في الصف الثالث ابتداء من الاول، المقعد الاول، كانت القاعة مضاءة، وكان الناس يتوافدون واحدا تلو الاخر، ارسلت نظرة الى صف المقاعد الاول فرأيت قمر البيك، تتخذ مجلسها هناك مثل عناة الكنعانية، كانت اشبه ما تكون بآلهة في اهاب صبية، ذات اصل وفصل. اظلمت القاعة ايذانا ببدء العروض، كانت الافلام وثائقية قصيرة، ينتهي فيلم ليبتدئ آخر، وكما قرأت في اللافتة الضخمة قبل قليل، جاء فيلم "عين غزال" الذي انتظرته طويلا، مسكا لختام المهرجان.
تابعت احداث الفيلم بحالة من النشوة على غير عادتي في متابعة الافلام السينمائية، وكنت اتابع اللقطة تلو اللقطة، وحمدت الله انني لم ارافق احدا لحضور المهرجان، فقد كنت انتظر كل مشهد وكأنما هو يحكي عني انا المهجر الابدي، الباحث عن بيت وظل شجرة. ابتدأ الفيلم برواية قصة عائلة البيك، مُعّرفا بها وبأفرادها ومقدما اياهم واحدا واحدا بكلمات قصيرة. الزقرط بيك ما زال الزقرط القديم الذي عرفته قبل اكثر من ثلاثين عاما، والنحلة ما زالت كما هي ذات اطلالة مبهرة ونظرات حالمة. ببطء شديد ومنظم توصلت الكاميرا الى قمر عين غزال، ابنة احبائي القدماء، لتستعرض معها قصة حلمها بالعودة الى عين غزالها، لقد بكت تلك الرِئمةُ المقبلةُ من ماض تليد الى حاضر جديد، كما لم يبك احد، وسط اسراب الظباء المنطلقة في كل مكان، تجوب انحاء قرية مهجرة، غير انها توقفت فجأة لتقول لمشاهديها، انها لن تبكي اكثر، وانها ببكائها ذاك.. انما كانت تجسد دموع والدها، اما الان.. فإنها ستهتف في وجه العالم القاسي.. وسوف تنتصر لأبيها وجدها وكل من احبتهم من الناس، وتصرخ بملء صوتها: انا عائدة الى عين غزال.
عندها ضجت القاعة بالتصفيق، وتوقف العرض. اندفع المحبون والمؤيدون، باتجاه قمر وحملوها على الاكتاف، وهم يجرون حاملين اياها وراكضين باتجاه عين غزال.. ركض الموكب وركضت نحوه اريد ان اشارك فيها، اريد ان ارى قمر، اريد ان احمّلها تحياتي الى والديها.. غير ان الموكب، مضى مندفعا باتجاه تلك العين التي ابكت ابناءها وحان لهم ان يضحكوا.. عندما ابتعد الموكب.. حملتني قدماي الموهنتان جراء المرض والشيخوخة، وعدت شابا معافى بالضبط كما كنت قبل اكثر من ثلاثة عقود من الزمان.. وركضت نحو عين غزال مسترشدا بقمرها المكتمل المتألق.