X أغلق
X أغلق

تواصل معنا عبر الفيسبوك
حالة الطقس
عبلين 27º - 14º
طبريا 28º - 12º
النقب 30º - 10º
الناصرة 28º - 14º
القدس 27º - 5º
حيفا 27º - 14º
تل ابيب 26º - 12º
بئر السبع 30º - 12º
ايلات 32º - 12º
مواقع صديقة
أراء حرة
اضف تعقيب
07/01/2022 - 10:15:25 pm
بن غوريون طار طار والحبل على الجرّار بقلم:رائد نصر الله

بن غوريون طار طار والحبل على الجرّار

بقلم:رائد نصر الله

من الشعارات السياسيّة الأولى التي سمعتها وحفظتها في طفولتي، في محيطي العائلي وخصوصًا خلال الحديث أو المشاركة كطفل مرافق في مظاهرات الأول من أيّار في شوارع النّاصرة، كان "بن غوريون طار طار الحبل على الجرّار"، وأذكر الراحل الكبير الرفيق سهيل نصّار (ابو نادر) وهو الأشهر في ترديد هذا الشعار وغيره وبصوته الأجش المتميّز وهو يعتلي سيارة (التراك) الشبيهة بكلب البولدغ وخلفه المئات من رفاق ورفيقات الشبيبة بقمصانهم البيضاء وربطاتهم الحمر يرددون الشعارات من خلفه وعلى وقع الايقاع الذي يطلقه من حنجرته القويّة، وبين كل هتاف وهتاف نسمعه يرحب بالوفود القادمة من كل حدب وصوب قائلًا  "أهلا بوفود قرانا جاءت تلبي ندانا اخوتنا في شقانا" ثم يردد "أرض العروبة للعرب صهيوني شيّل وارحلِ"، ويتبعها بهتاف آخر: "الناصرة يا ركن الجليل فيك البوليس مدحدلة" بالإشارة إلى انتفاضة 58 حين أفشلت كوادر الحزب الشيوعي محاولات فرض احتفالات اسرائيل بذكرى "استقلالها" العاشر على الناصرة وأم الفحم وغيرها من بلداتنا وكلفها ذلك مئات المعتقلين والمبعدين والمصابين، ثم يتبع ذلك شعار آخر "حنا نقارة جاب الهويّة غصبن عنك يا بن غوريونا"، بالإشارة إلى فشل استكمال التشريد والنجاح في تحصيل حق البقاء في الوطن الذي شكّل معركة الهويات والثبات على أرض الآباء والأجداد واجهته الأبرز.

وبالتالي كان لهذه الشعارات والهتافات دور مؤسس في وضع المداميك الأولى في بناء وبلورة قناعاتي وتوجهاتي السياسيّة الوطنيّة والتقدميّة على حد سواء، وجوهرها بأننا بقينا وصمدنا ونعيش في وطننا مرفوعي الرأس بكرامة وليس منّة من أحد ولا لسود عيوننا لا بل في ظل تحدٍّ متواصل ومواجهة دائمة مع مؤسسة حاكمة سياستها تتلخص بكونها ترجمة فعليّة، وإن تعددت الأساليب وتغيّرت الظروف، لما جاء به هذا البن غوريون وحركته الصهيونيّة ومارسه وارتكبه هو ومؤسسته ومؤسسته وهو، على حد سواء، بحيث كانوا يسعون لترجمة شعارهم المركزي لحل ما يسمى المسألة اليهودية في أوروبا على أساس أن فلسطين أرض بلا شعب وهي يجب أن "تُجهّز" لليهود كـ "شعب" بلا أرض كما يدّعون. وهو هو بن غوريون الذي وقف على رأس المؤسسة ما قبل النكبة وخلالها وبعدها وهي ذات المؤسسة التي واصلت وتواصل إلى اليوم، حتى بعد أن طار من سدّة الحكم وانقبر في صحراء النقب وصار قبره "مدرسة" تحصل على ميزانيات لتدريس سجلّ المقبور الدموي بحقّ شعبنا كملاحم بطولة صهيونيّة، هذه الميزانيات التي تجددت وزادت مؤخرًا بـ"فضل" أشاوس مفكرين حالهم مفتحين ببلاد عميان في التعامل مع أنياب صهيونية متمرسة. 

وما كشفته، وتكشفه بالتدريج، الوثائق السريّة، التي كانت حبيسة الأرشيف الصهيوني لعشرات السنين، تؤكّد حقيقة المجازر التي ارتكبت بحق شعبنا أحيانًا بإيحاء، لا يقبل التأويل، بلغة الجسد والعينين، لا بل في بعض المجازر المرتكبة بتعليمات مباشرة وموثقة باسم هذا البن غوريون أو من قبل من ناب أو ينوب عنه أو من استمر بفكره.

وعلى أساس ما تقدّم صار بالنسبة لي شخص بن غوريون يلخّص ثلاث مفاصل تشكّل حلقات أساسيّة في وعيي الوجودي في هذا الوطن مع أهلي وبين شعبي رغم كل ما يمكن أن يقال عن حالي وحال أهلى وحال شعبي من وهن وضعف بل وتردٍ شامل في بعض الأحيان ولكنه باعتقادي وهن مؤقت حتمًا، فالمفصل الأول يبدأ بالمشروع الاستيطاني الصهيوني وما ارتكبه بحق شعبنا عبر السنين مرورًا بمعجزة البقاء والثبات في الوطن بعد عبور تحدّيات الترحيل والتفتيت والتهويد بأشكالها ومراحلها المختلفة وبقيت مع هذا الوعي كحال غالبيّة أبناء جيلي وما سبقنا وما تبعنا من أجيال وكلنا على هدى الأولين الذين شقوا الطريق الأصعب منذ أن رفعوا شعار الكف بتلاطم المخرز وهنا على صدوركم باقون وغيرها  فصمدوا وصمدنا، فتحدوا وتحدينا، ونادوا على الفلاح فنادينا على الفلاح وكل له مساهماته في الأحداث العامة التراكميّة أو من خلال مساهمات شخصية هنا وهناك، لا بدّ من سردها لتشكّل قطعة مكمّلة في "بازل" سيرورة البقاء الملحميّة الجماعيّة هذه، التي لا يمكن أن تخفيها ولا أن تعميها كل الميزانيات الملوثة برائحة القبر البن غوريوني أو تلك المغموسة بذل الفتات على حساب التمسك بالحقوق المكتسبة بثمن حماية البقاء والتطور بكرامة على أرض الآباء والأجداد.

وهنا لا بدّ لي في هذا السياق أن أحدثكم عن بعض المحطات الشخصيّة التي واجهت بها البن غوريونيّة وفق ما     تسلحت به من فكر وتوعية وتعبئة سياسيّة وكان ذلك في مثل هذه الأيام من موسم أعياد الميلاد ورأس السنة من العام 1987 وبُعيد انطلاق انتفاضة شعبنا المباركة الأولى حيث هبت جماهيرنا في الداخل متضامنة مع ذاتها ومع امتدادها، وفي أعقاب مظاهرات ومواجهات مع الشرطة جرى اعتقال العشرات وكان لي نصيب في ذلك حيث "استضافوني" في القسم الأمني من معتقل الجلمة، قرب حيفا، وخلال أيام وليال طويلة من التحقيقات، تناوب عليها ثلاث شخصيات مخابراتيّة وزعت الأدوار فيما بينها كحال الفيلم المعروف "الطيب والشرس والقبيح"، لم ينجحوا، كما هو الحال مع كوادرنا المعدة سلفًا لمثل هذه الحالات، بالحصول مني على أكثر من اسمي وبعض المعلومات عني المعروفة للقاصي والداني، وكنت في حينه أتولى مهام سكرتير فرع الشبيبة الشيوعية في الناصرة وفي لحظة هدوء في غرفة التحقيق اقترب مني من خلف طاولته المحقق الذي كان يقوم بدور "الطيّب" وكأن به يريد أن يهمس بأذني بسر وقال لي "ليش بتشد عحالك انت؟ ثلاثة أرباع الفلسطينية بالضفة بتعاونوا معنا"، تبسمت وبادلته بذات الحركة ليقترب بأذنه نحوي فقلت له: "بتعرف انه بن غوريون تبعك كان يتفاوض مع النازيّة لتهريب بعض اليهود إلى فلسطين"، ففي الحال قفز المحقق من مكانه وضرب كفيه بقوة على الطاولة وصاح خذوه من هنا وانهال علي بشتائم ما أنزل الله بها من سلطان وبعد أيام أطلق سراحي بعد اسقاط جميع "التهم الخطيرة" التي تقدمت بها النيابة بحقي إلى المحكمة لتمديد الاعتقال لأكثر من أسبوعين كما الحال مع العديد من الرفاق من كل الانتماءات والتوجهات السياسيّة الوطنية في ذلك الزمن، وبالأساس من الشيوعيين ومن أبناء البلد والمستقلين.

ومرّت السنوات وجرت الكثير من المياه في الأنهار، وفي مرحلة من العمر قررت امتهان مهنة جديدة في الحياة وهي مرشد سياحي مؤهل والتي تحتاج لممارستها الحصول على رخصة خاصة من وزارة السّياحة الاسرائيليّة بعد اجتياز امتحانات مضنية يسبقها الالتحاق بدورة تعليمية لمدة سنتين وأكثر قليلاً، تعادل الدراسة الجامعيّة للقب الثاني وضمن برنامج التعليم المفروض هناك مساقات متعلقة بتاريخ الحركة الصهيونيّة وتاريخ الدولة الاسرائيلية وما يسمى الموروث الحربي وكلها وفق الرواية خاصتهم مع كل المنغصات التي عليك هضمها وصولاً الى مرحلة ما بعد الامتحان والحصول على الرخصة ولكن مع ذلك فإن روح الحفاظ على الكرامة الشخصية والوطنية تمنعك خلال التعليم من المرور مرّ الكرام على أمور تنحرك من داخلك حين تسمعها وحيث نحن بصدد الحديث عن المقبور بن غوريون فقد اشتملت أحد الجولات الميدانية التعليميّة ضمن الدورة المذكورة زيارة قبر المذكور في النقب والذي تحول مع بيته الذي سكنه هناك في آخر أيام حياته، بعد اعتزاله الحياة السّياسيّة إلى مدرسة ميدانية لتدريس "تراثه"، هناك استقبلنا مندوب المدرسة قائلاً: "لا أريد أن أقدّم لكم محاضرة عن بن غوريون وأفضّل أن نجري حوارًا عنه وخصوصًا انكم مرشدو سياحة مستقبلاً فأريد منكم أن تقولوا لي ماذا يعني لكم الاسم بن غوريون؟" فبدأت الاجوبة تأتي من كل حدب وصوب في القاعة، وبالمناسبة كانت الغالبيّة الساحقة من الزملاء من العرب وقلة قليلة من اليهود، وهناك من قال زعيم وهناك من قال الختيار وآخر قال رئيس الحكومة وغير ذلك  من الأجوبة الخجولة بتعبير مؤدب، وحين جاء دوري قلت مباشرة بن غوريون هو النكبة وحينها ساد صمت مفاجئ تبعه سؤال من المضيف وكأنه لم يسمعني جيدًا، عندها بدأ عدد من ضعاف النفوس من بين الزملاء بمعاتبتي وأن هذه الاجابة "مش وقتها يا رائد خلينا نوخذ الرخصة" فحدث هرج ومرج في القاعة وارتفع صوتي بعصبية قائلا " الرخصة بنوخذها وراسنا مرفوع" وانتقل النقاش الحاد لاحقًا خارج القاعة. بينما في الداخل تدخّل الضيف طالبًا مني الاستمرار فأضفت أن بن غوريون يعني بالنسبة لي نكبة شعبي الفلسطيني وبن غوريون يعني بالنسبة لي تهويد الجليل على حساب السكان الأصلانيين ومصادرة أراضي الناصرة ومنعها من النمو نحو الشرق وخنقها من خلال إقامة مستوطنة نتسيرت عيليت على حساب كل القرى القريبة من الناصرة وللحقيقة الزلمة احترم حقي بالكلام وثم واصل سرد روايته البن غوريونية على راحته.

بعد نجاحي بالامتحان وحصولي على الرخصة المأمولة ومع تركيزي على العمل المهني كما تفرض أخلاقيات المهنة في مجال السّياحة الوافدة إلا أني أرشد بين الحين والآخر مجموعات يهودية تأتي لزيارة الناصرة، وفي المسار الذي أتبعه بالإرشاد أتوقف مع هذه المجموعات عند موقع كاشف على الناصرة على الطريق الفاصل بينها وبين نتسيرت عيليت (نوف هجليل) وأحدثهم، خلال هذه الوقفة الاستعراضية لمعالم الناصرة البارزة من هناك، عن التجاور بين الناصرة وبين نوف هجليل وعن توجّه الحكومة برئاسة بن غوريون في مطلع الخمسينات بضرورة التعامل مع التوازن الديمغرافي في الجليل من خلال ضمان أكثرية يهودية وهو الموقف الذي نتج عنه القرار الحكومي بإقامة مدينتين يهوديتين في الجليل (كرميئيل ونوف هجليل التي كان اسمها في البداية كريات نتسيرت)، بالإضافة إلى عدد من المستوطنات الأخرى خدمة لنفس الهدف واختتم استعراضي التاريخي بسرد نكتة متداولة عن بن غوريون أنّه حين زار قبره وفد رسمي من نوف هجليل (باسمها الراهن) لتكريمه في ذكرى تأسيس المدينة استفسر منه بن غوريون عن أحوال المدينة فحدثه أعضاء الوفد عن نمو البلد وتطورها في كل المجالات فسألهم بن غوريون وهل أصبحت الناصرة البلدة القديمة لبلدكم فأجابوه برهبة بل اننا أصبحنا فندقًا كبيرًا لأهل الناصرة والقرى المحيطة فسألهم بن غوريون وكيف ذلك؟ فأجابوا أصبحنا مدينة مختلطة بامتياز فأكثر من ربع السكان هم من العرب لا بل ولهم تمثيل قوي في المجلس البلدي مع نائب رئيس بلدية فصاح بن غوريون: "اغربوا عن وجهي ودعوني أغيّر نومتي الأخيرة في قبري".

وبن غوريون طار طار والحبل على الجرار، مهما شَطحت ومهما صار يا ...مغوار.

الناصرة

 







Copyright © elgzal.com 2011-2024 | All Rights Reserved © جميع الحقوق محفوظة لموقع الغزال
سيجما سبيس بناء مواقع انترنت